يبدو لي، أنّ العالِم الدِّيني النّموذجي هو من تتوفّر فيه جملة من مواصفات ضرورية وأخرى كماليّة لكنّها مهمّة. أقتصر على الضّروري منها:
١) الأخلاق:
فقد وصف الله تعالى نبيّه الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤] لا سيّما وأنّ المتصّدّي في الواقع إنّما يمارس دور القدوة والـمَـثَـل ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]، وقد أُثر عنه (صلَّى الله عليه وآله) أنّه قال: “إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”.
لقد رأيت وشاهدت ولاحظت أكثر من مرّة هنا وهناك أفاضل أتقياء يرغبون ويهتمّون بالتّصدّي والخدمة لكنّهم لا يمارسون ما وصّى به النّبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) “إلق أخاك بوجه منسبط”، بل العكس، يلحظ عليهم التّعبيس بوجوه النّاس والسّائلين والمستمعين وعدم التّرحاب بهم، ويتحدّثون إليهم بلسانٍ غضِب ويظهرون لهم انزعاجهم لما قد يلاحظونه عليهم من الجهل وقلّة المعلومات وعدم اتّباع الشّرع حسبما يفترض بهم كمؤمنين. بينما سيرة النّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته الطّاهرين (عليهم السَّلام) تفوح بالخُلق الطّيّب واللّين وخفض الجناح والبسمة بل وحتّى المزح أحياناً وما ذلك إلّا لعكس واقع حال المهمّة الدِّينية وحال الرّسل ولتحبيب النّاس إلى الله تعالى. ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩]. روي عن النّبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) “المؤمن هشّ بشّ”. وقد قرأت مرّة أنّ في الصّين مثلاً يقول بما معناه إن لم يكن على وجهك ابتسامة فلا تفتحنّ محلّاً للعمل.
٢) التّقوى والإخلاص:
وهي العماد الثّاني الضّروري الّذي لا مناص منه. قال تعالى ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨]، وقال تعالى ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: ٥٠]. إنّ عالِمَ الدِّين ما أشدّ احتياجه إلى الإخلاص في عمله والخوف والتّقوى من الله تعالى. وإنّ أشدّ ما يمكن أن يبتلى به هو الرّياء والأموال والجنس أكثر من غيرها. فالشّيطان متربّص في هذه المواضع لحظة بلحظة. والحقّ يقال أنّ هذه الثّلاث صعبة صعبة صعبة، وتحتاج إلى جانب الصّمود والجهاد إلى عناية من الله تعالى كما عنى وحفظ أنبياءه داوود وسليمان ويوسف وغيرهم (عليهم السَّلام) حينما تعرّضوا لأشدّ الامتحانات في مثل هذه الموارد وغيرها.
لا شكّ أنّ الحياة الدّنيا مغرية جدّاً. فعلى صعيد الرّياء يواجه عالِم الدِّين فتنة الألقاب والمدح حدّ الملق والتّصفيق والقول بلا وجه حقّ دفاعاً أو هجوماً.
وعلى صعيد الأموال فالنّاس تضع ثقتها بعالِم الدِّين وتأمنه على أموالهم الشّرعية على اختلاف أنواعها وهم على حسن وصفاء نيّاتهم، وإذا بالشّيطان المتربّص يوسوس لعالِم الدِّين بالمخارج الفقهيّة للَيّ معنى اللّفظ الّذي يسمعه من الباذل فيخرجه من القيد إلى الإطلاق ومن الخاصّ إلى العامّ ليحمله على وجوه أوسع فتُفتح له أبواب التّصرّف حسبما تشتهي النّفس. إنّ عالِم الدِّين المتّقي لا يمكن أن يفعل ذلك لأنّه يعلم أنّها خيانة، وأنّه يلتفّ على نفسه ووجدانه، وأنّه يستغفل صاحب المال الباذل من عرق جبينه لإرضاء ربّه كواجب شرعيّ أو لفعل مستحبّ طوعي.
وهكذا الجنس، فالنّاس لثقتها الزّائدة عن الحدّ، وأعني بالزّائدة عن الحدّ أنّ كثيرين يتعاملون مع عالِم الدِّين وكأنّه من صنف الملائكة أو معصوم ومحصّن من الوقوع في فخّ الجنس، فيفرغون إليه كل ما عندهم من أسرار عائليّة وأمور شخصيّة قد لا يعلم بها سوى الزّوجين نفسهما، أو أن تضع امرأة ثقتها به وتبوح له بكل ما عندها لغرض إصلاح وضعها وإخراجها من محنة ما، وإذا بالشّيطان الرّجيم يهيمن ويتربّع ويعشعش على الموقف ويأخذ المرء يميناً وشمالاً يزيّن له ما أحلّ الله ويبعد عنه كلّ ما ينبغي مراعاته ممّا هو فيه من تلبّس موقعيّة ودور النّبوة والإمامة وما تقتضيه أعراف المتشرّعين من أخلاقيّات وأصوليّات لا تسمح له بممارسة بعض الحلال والمباح حتّى في أعين أبسط النّاس. وحقّاً كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) “وكم من شهوة ساعة أورثت حزنا طويلاً”. الشهوات الخطرة حريٌّ بعالِم الدِّين الصبر عنها وتجنّبها احتساباً.
٣) العلم:
فهو الموضوع وهو بضاعة عالِم الدِّين الّذي من أجله صار يُنعت بهذا الوصف “عالِم دين”، أليس كذلك؟ لا يخفى ولا نقاش في فضل العلم وقيمة العلماء وأهميّة دورهم. قال تعالى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ٩]، و﴿يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١]، و﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّـهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ [المائدة: ٤٤]. إذن، العلم ضرورة وقوام عالِم الدِّين.
قد يكون المرء خلوقاً ومتّقياً مخلصاً يستحقّ توفيقات ربّانية كما يلاحظ على بعض المبلّغين والوعّاظ بكثير من النّعم الإلهية نتيجة هذَين العاملَين. لكن إن كان الحديث عن عالِم الدِّين النّموذجي فلا يكفي ذلك بعد أن كان العلم أساس الموضوع وقوامه. فالنّاس بحاجة إلى العلم والتّخصّص إلى جانب الخُلُق والإخلاص والتّقوى. العالِم الدِّيني إنّما يقدّم نفسه للمجتمع كمصدر معلومات ديني، وكمتصدّي للشّؤون الدّينيّة، وكمبلّغ عنه رسالات الله تعالى، ولا بدّ له من مواجهة الشّبهات والضّلال والجهل وخلط الحقّ بالباطل بقوة علمه وتضلّعه في القرآن والحديث فيما يشتملان عليه من عقيدة وفقه وقيم وفكر وإلى ما شاء الله من المدد العلمي. وإلّا، لا سمح الله، قد تكون ردّة الفعل أقوى إذا اقتصر على الأخلاق وعلى التّقوى الضّرورَين دون التّخصّص العلمي ويكون حينئذ الوهن والذّل لا على الصّعيد الشّخصي بل على صعيد المذهب والدِّين بأكمله حسب الموقف والزّمان والمكان والظّرف.
هذه أهمّ المواصفات الضّرورية وهناك مواصفات كماليّة لكنّها مهمّة جدّاً لعلّني أتناولها في وقت آخر مثل: الثّقافة العامة وسعة الاطّلاع، الصّبر والتّحمل وسعة الصّدر، الشّجاعة والجرأة والإقدام، وغير ذلك.
فإنْ توفّرت فيه هذه المواصفات، مجموعة، فسيتمكّن الرّاغب بعون من الله تعالى وتأييد من صاحب العصر (عليه السَّلام) من التّصدي لخدمة الدِّين والنّاس والتّزّيي بالزّيّ الدّيني إن احتاج الأمر وتسنّم موقع من مواقع الخدمة الدّينية كإمامة مسجد أو مركز ثقافي ديني أو منصّة عامّة. ومَن لا تتوفّر فيه هذه المواصفات فلعلّ الأفضل بدلاً عن التّصدّي العامّ الانشغال بالخدمة في موارد أخرى أكثر تناسباً وانسجاماً مع شخصيّته وطباعه.
تنويه! يأتي هذا المقال المختصر بعد تساؤلات ونقاشات وسجالات أفرزتها وتفرزها الفوضى الحاكمة في كثير من المجتمعات الإسلاميّة في مختلف البقاع والأصقاع. فقد ضاع على عامّة النّاس لا سيّما البسطاء والمستضعفين منهم، وسط ركام من المدّعين والمتزيّين بزيّ أهل العلم، معرفةَ مَن هو العالِم الدِّيني الّذي يمكن أخذ معالم دينهم وأحكام شريعتهم منه بشكل مبسّط وميسّر وسمح، بكل أمانة وصدق، كما عهد عن الصّادق الأمين (صلَّى الله عليه وآله) قوله “جئتكم بالشّريعة السمحاء”. علماً إنّني استصعب ما يقدم عليه عامّة النّاس والمؤمنين من أعذار يسندونها إلى قلّة فهم وعلم ومعرفة في وقت تتوفّر فيه وسائل التّواصل الاجتماعي المتيسّرة والمتكثّرة والسّريعة لمعرفة الغث من السّمين والصّحيح من السّقيم. وفي الوقت ذاته، أتمنّى على كلّ من له حظّ من العلم والمعرفة أن يساهم في صنع المادة السّليمة وتقديمها في هذا الفضاء الواسع الرّحب فإنّ التّقارير تؤكّد أنّ أكثر من سبعين بالمائة ممّا هو موجود على الشّبكة البينيّة (انترنت) يفتقر للتّوثيق أو الصّحة فضلاً عمّا هو باطل ومحض هراء. يكفي أن تضع أيّ مصطلح ديني في أيّ محرّك بحثي مثل جوجل وبينغ وغيرهما وستجد قبال شرح دقيق مسند واحد كم من العشرات إن لم يكن المئات من الشّروح غير الموثّقة وغير السّليمة إن لم تكن مفبركة ومضلِّلة. لذا، فليساهم أهل الفضل بموادّهم المفيدة والنّافعة وبنشر كلمة الحق والصّلاح خدمة للعلم والدِّين والبشريّة. والأجر على الله وهو نعم المولى نعم النّصير.
الباحث السيد محمّد باقر الرّضوي الكشميري