المقالات
اللّقاء المسيحي الإسلامي
لماذا نلتقي؟
هل للمجاملات أم لهدفٍ سامٍ؟
لا يبدو أن لقاءات الزّعماء الرّوحيين وكبار علماء الأديان تقتصر على مجاملات أو مصانعات أو مضارعات قد تلحظ هنا أو هناك عند زعامات وقيادات أخرى. إذ لو اقتصر على ذلك فحينها سيفقد اللّقاء غرضه وسيعرّض بمصداقيتهم وما يتوقّع له من أثر في نفوس الأتباع لا سيّما إذا كانوا أتباع ديانات شهيرة ومنتشرة على المستوى العالمي، بل وأكثر من ذلك إن كانت تلكم الدّيانات تواجه مخاطر مشتركة وتحدّيات مماثلة، كما يشهده المسرح الدّيني العالمي اليوم بدءً من أقصى الشّمال الشّرقي حيث تمركز البوذية في اليابان وجاراتها، وانتهاء بالجنوب الغربي حيث قمّة الولاء والذّوبان في المسيحية في أمريكا اللّاتينية كالأرجنتين وجاراتها، وهكذا ما بين هذين الفضائين الرّحبين – أعني مهد الحضارات – حيث يتمركز الإسلام الّذي تؤكّد إحصاءات أنّه الأسرع انتشاراً في مختلف أرجاء المعمورة. وهكذا الحال بالنّسبة لأغلب الأديان والمعتقدات الأخرى في مواقع جغرافية أخرى.
إنّ أهمّ رأس مال يملكه علماء الدِّين هو الاعتبار. ولا يمكن بحال المجازفة به ولو لمرّة واحدة، فإنّها كافية لتسقطه في أعين أتباعه. فلا تذهب بالبعض الظّنون إلى تحليلات طويلة عريضة وبعيدة عن الواقع، أو بالذّهاب أبعد بتأطيرها بما أكل الدّهر عليه وشرب كنظرية المؤامرات و… إلخ. صدقاً، إنّ القضية أبسط من ذلك بكثير، وإنّ الهدف هو هدف سام فعلاً.
الهدف السّامي للّقاء المسيحي الإسلامي ليس وليد الساعة، ولم يأت من مبادرة هنا أو مساعٍ هناك بل قد تُجهض وتُردّ هكذا محاولات إذا كان ما كان ورائها مساعٍ يشمّ معها روائح أهداف جهات أخرى أو مقاصد لا تتبنّاها الرّؤية الدّينية مسعاً يقرّب المؤمنين بالله تعالى من بعضهم البعض، وهو مسعى متجذّر ومتأصّل تأريخيّاً بحكم عوامل مهمّة كالإيمان، والشريعة، والأخلاق.
إيمانياً،
فالمسيحيون والمسلمون كلاهما يؤمنون بالله وبالرّسالة وباليوم الآخِر عموماً وان اختلفوا في التّفاصيل الّتي يختلف فيها أبناء الدّين الواحد فيولّد مذاهباً. قال تعالى: ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾.
وإنّ أهمّ ما يقرّب بين هذين ما انفرد به القرآن الكريم من إسهاب وتفصيل عن النّبي عيسى (عليه السَّلام) وعن أمّه سيّدة النّساء مريم العذراء (عليها السَّلام)، وهما سنام قدسية المسيحيين على الإطلاق وأساس المسيحية على مختلف نسخها وألوانها وفروعها قديماً وحديثاً. فالقرآن يصرّح بقوله: ﴿إنّما ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٌ مِّنۡهُ﴾ فهو كلمة الله، وهو روح الله، وإنّ المتلقّي هي سيّدة النّساء مريم الّتي قال فيها ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾. وبالتّالي فهو ثروة معرفية تشكّل أرضيّة قويّة للّقاء والتّعارف والتّقارب، بل وللعمل المشترك ضدّ التحدّيات المشتركة.
تشريعياً،
فإنّ المسيحية والإسلام كلاهما يشتركان في العديد من التشريعات. فكلاهما يدعوان إلى العدل، والإحسان، والقول السّديد، والحوار، والمنافسة على الخيرات، والموعظة الحسنة وهي الّتي أكّد عليها القرآن لا سيّما بالحوار مع أهل الكتاب ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾. وبالتّالي فإنّ هذا الجانب التشريعي المشترك هو مقوّم آخر وثروة أخرى تشكّل أرضيّة قويّة للّقاء والتّعارف والتّقارب، بل وللعمل المشترك ضدّ التحدّيات المشتركة.
أخلاقياً،
يقول تعالى ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وقد وصف بعض أهل الكتاب مادحاً ومؤكّداً أنّهم الأقرب للمسلمين بقوله تعالى ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾، ومعنى لا يستكبرون أي: متواضعين، حَسِني الخُلُق، وسَيعي الصّدر، لَيِّني الكلمة. وقد ثبت واشتهر وعُرف عن النّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) أنّه قال “بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق” وقد وصفه الله تعالى ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ فكان ترجمان الخُلُق الإلهي على الأرض ليكون لنا “قدوة” ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، وقد سبق ذلك كلّه ربّ العزّة قائلاً ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ فهل هناك أرضيّة مشتركة أقوى من هذه بعدُ تؤكّد على أهمّية اللّقاء والتّعارف والتّقارب للعمل المشترك لا سيّما ضدّ التحدّيات المشتركة؟
هذا، مضافاً إلى السّيرة العملية وتأريخ من اللّقاءات والتّعاضد والعمل المشترك منذ صدر الإسلام وحتّى العصر الحاضر دون توقف.
قد لا نكون بحاجة إلى التّذكير بهجرة مسلمي مكّة الأوائل بقيادة جعفر بن أبي طالب إلى الملك المسيحي العادل في الحبشة الّذي أحسن إليهم وآواهم ووقف إلى جانبهم بعد أن استمع إلى جانب من سورة مريم وإلى شكوى الوفد من ظلم قريش وبطشهم.
وهكذا، ما أعقب تلك الهجرة استقبال النّبي الأكرم وفداً من مسيحي الحبشة وهو تحت حصار شِعب أبي طالب رغم محاولة قريش منع الوفد من الوصول. فوصفهم الله ونعتهم بأحسن ما يكون. يقول تعالى في قرآنه حاكياً جوانب من الواقعة في سورة القصص قائلاً: ﴿ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِهِۦ هُم بِهِۦ يُؤۡمِنُونَ وَإِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِهِۦٓ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلِهِۦ مُسۡلِمِينَ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾.
وهكذا مروراً بالمدينة المنوّرة واستقبال النّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وفداً عُلمائياً موقّراً من نصارى نجران في مسجده المعظّم في المدينة المنوّرة. ولم يكن لقاءً بسيطاً إنّما كان لقاءً مصيرياً وحماسياً تناول جوانب لاهوتية حسّاسة لدى الطّرفين، وضع الله فيه البركة والخير ليكون درساً ومنهجاً للحوار بين الأديان إلى يوم الدّين، وانتهى إلى تفاهم واتّفاقية للعيش المشترك مع أمن واستقرار وحقوق مواطنة وتكافل تامّ.
وهكذا، مرّت المدينة المنورة بتجربة رائدة أخرى تمثّلت بمسعى النّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) بتحرير الوثيقة التّأريخية للعيش المشترك، والنّادرة، وهي صحيفة المدينة الّتي شكّل المسيحيون جانباً مهماً فيها.
وتستمر المسيرة هكذا عبر العصور وإن انطوت على فترات هدوء وضعف تواصل نتيجة عوامل عديدة أهمّها سياسات الحكّام ومصالحهم البغيضة.
إنّ من أهمّ ما يجب استثماره وأخذ البركة والخير فيه من وجود الزّعماء الرّوحيين هو التّقرّب منهم والاستماع إلى نصائحهم والتّمثّل بخُلُقهم والتّعلم من مبادئهم والنّهل من معارفهم فيما إذا أرادوا أن يكونوا حكّاماً صالحين يخلّدهم وأفعالهم ومنجزاتهم التّأريخ والأمم. إنّ إقصاء الزّعماء الرّوحيين أو تحييدهم أو ظلمهم أو استغلال موقعيتهم الدّينية لمصالح سياسية دنيئة إنما هو من أقبح صور الظّلم ومن أبشع صور الاستغلال التي يجب أن يبتعد عنها الحاكمون مهما كان لونهم أو رائحتهم أو طعمهم.
لاحظتُ مقالاتٍ وتعليقاتٍ ومداخلاتٍ هنا وهناك تناولت اللّقاء البابوي-المرجعي من زوايا مختلفة. وفي الوقت الذي تُثمّن فيه الرّؤى الإيجابية والتّفاؤلية، أقول: لا يمنع من اختلاف وجهات النّظر، لكن لا أظنّ هناك شئ يدعو أصحاب الرّؤى المخالفة حمل الموضوع على أبعد من واقعه. صحيح أنّنا لسنا في عالَم مثالي يحسن الظّنّ فيه بكل شئ، كما لا يفترض أن نكون من البساطة في مكان لتنطلي علينا فذلكات وحنكات تصدر من ذاك ويتنطّع بها هذا، لكن قد يصلح الاستشهاد هنا بتحذير ربّاني حكيم حينما أنزل قوله: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنا﴾ حينما ذهبت ظنون وأهواء مَن كان يفترض بهم أن يكون حَمَلَةً للدّين بتصفيتهم بريئاً أظهر الصّلاح فذهب الرّجل ضحية سوء ظنّ واتّهامه بإخفاء ما في قلبه عكس ما يظهره! فوبخّه الرّسول الأكرم بقوله له: “هلّا شققت عن قلبه”؟
أظنّ قد ولّى زمن المؤامرات وسط ما نعيشه اليوم من فسحة، لا بدّ من توجيه البوصلة إلى الأهمّ، وأن نتوسّع بالأفق بما يناسب أفق وتطلّعات رسالة ربّانية بهذه العظمة التّي نؤمن بها ونتطلّع لمستقبلها الواعد على يد المصلح عجّل الله تعالى ظهوره.
آمل، بهذا، سيكون بمقدورنا قلب السّؤال المتصدّر للمقال إلى: ولماذا لا نلتقي؟
بقلم السيد محمد باقر الرّضوي الكشميري
احسنت سيدنا
بوركتم