منذ عام 2003 وبعد الإطاحة بالنظام البائد كان لدى العراقيين آمال كبيرة في إحداث تغيير جوهري في حياتهم بعد ثلاثة عقود ونصف من الاستبداد، لكن في السنوات التي تلت ذلك لم تتحقق الكثير من هذه التوقعات ، اذ أتسم النظام السياسي في العراق بعد عام 2003 بعدم الاستقرار مدفوعًا بمجموعة متنوعة من العوامل ، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر التوترات العرقية والطائفية ، وتدخلات دول الجوار ، والتحديات الأمنية التي خلقتها الجماعات الإرهابية ، وبالإضافة إلى ذلك سيطر على المشهد السياسي خلال كل إدارة عراقية تقريبًا منذ عام 2003 ائتلافات ضعيفة ومنقسمة غير قادرة على تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي تشتد الحاجة إليها ، اذ بنيت معظم مؤسسات الدولة العراقية بالأصل لخدمة نظام مختلف كليًا عن النظام الدستوري الفيدرالي الديمقراطي الذي كان من المفترض أن يتم إنشاؤه بعد استفتاء عام 2005, وظلت بيروقراطيته مليئة بمسؤولين كان إختيارهم قد تم بناءً على أساس الولاء الحزبي وسلاسل من القيادات الفضفاضة التي أعاقت تشريع وتنفيذ العديد من القوانين واللوائح والقرارات الرئيسية.
اشترك في قناة «وكالة نسيم كربلاء» على تليجرام
لعب سقوط الموصل والعديد من المدن والبلدات والقرى العراقية الأخرى خلال صيف 2014 مع ظهور عصابات داعش وتوسعها دورًا مهمًا في تغيير المعادلات السياسية المهيمنة في البلاد، اذ مثلت داعش تهديدًا وجوديًا للعراق ، وهو تهديد يختلف نوعياً عن تهديد الجماعات الإرهابية السابقة مثل القاعدة كان الرد على هذا التهديد غير المسبوق بنفس القدر على الجبهتين الأمنية والسياسية، بالنسبة للأولى تدخلت المرجعية الرشيدة في النجف بإصدار فتوى للجهاد الكفائي الذي كان المفتاح لعملية التحرير والنصر على تلك العصابات الاجرامية.
وصل مستوى الإحباط بين العراقيين إلى نقطة الغليان في أواخر عام 2019 ، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية حاشدة في بغداد والعديد من مدن جنوب العراق في تشرين الاول من العام ذاته ، اذ كانت الاحتجاجات سمة متكررة للحياة في العراق منذ عام 2003 ، كانت احتجاجات تشرين الاول 2019 مختلفة اختلافًا جوهريًا من حيث مدى المشاركة وانتشارها الجغرافي ، فضلاً عن عدد الجرحى والشهداء. على الرغم من مرور قرابة العامين منذ انطلاقها منذ ذلك الحين ، إلا أن العديد من الأسئلة الكبيرة التي أثارتها الاحتجاجات لا تزال بدون إجابة ، ومعظمها يدور حول استدامة النظام السياسي بعد عام 2003 وقدرته على تصحيح نفسه بمرور الوقت.
للإجابة على سؤال ما إذا كان النظام السياسي العراقي قادرًا على إصلاح نفسه ، من الضروري أولاً مراجعة المحاولات السابقة التي فشلت اذ ان هناك أسباب كثيرة لذلك ، ولكن أهمها الافتقار إلى الدعم السياسي وغياب الإرادة السياسية والشعبية لدفع فاتورة الإصلاح.
منذ عام 2004 ، اعتادت الكتل السياسية على تشكيل حكومات توافقية من تحالفات مختلفة ومتقاطعة في كثير من الأحيان حيث تتجنب هذه الحكومات الائتلافية الصراعات الصفرية التي من شأنها أن تعرض بقاءها السياسي للخطر إذا كانت ستعارض إرادة الكتل السياسية الكبيرة من خلال تنفيذ أي إصلاحات جذرية حقيقية قد تضر بمصالحها لذلك ركزت معظم هذه الإدارات ، سواء عن طيب خاطر أو بدون رغبة على ملفات لا تؤثر على المصالح الأساسية للكتل السياسية الرئيسية وبالتالي فإن أي إصلاحات تم اتباعها كانت بعيدة كل البعد عن كونها جوهرية وأساسية، اذ تشير هذه الأمثلة إلى أن نجاح الإصلاح الأساسي يعتمد على وجود حكومة فعالة ومتماسكة تدعمها كتلة برلمانية كبيرة وموحدة مع حاجة قرارات الإصلاح الصعبة أيضًا إلى دعم شعبي من الجمهور الذي يفهم ما هو على المحك.
ولكن ولسوء الحظ في ظل النظام الانتخابي السابق أو الحالي لا يمكن ذلك ، وفقًا للتعديلات التي أقرها البرلمان مؤخرًا وإصدارها بالقانون رقم( 9 ) لسنة 2020 ، أن تنتج مثل هذه الحكومة المتماسكة والفعالة أو كتلة برلمانية موحدة كبيرة نظرا إلى العدد الهائل من الأحزاب والكيانات المسجلة لدى مفوضية الانتخابات ، والتي يبلغ مجموعها حوالي (250) تتنافس على (329) مقعدًا في( 83 ) دائرة انتخابية ، فإن ظهور كتلة كبيرة قادرة على تشكيل حكومة متماسكة وفعالة هو مجرد خيال.
علاوة على ذلك ، فإن قانون الانتخاب ليس العامل الوحيد الذي يحدد نتائج العملية الانتخابية المؤدية إلى تشكيل الحكومة، اذ إن النظام السياسي الحالي مصمم عن قصد لعرقلة تشكيل حكومة فعالة قادرة على تنفيذ الإصلاحات ، فعادة ما يتم تشكيل الحكومة وفقًا لقواعد وإجراءات رسمية تبدو على الأقل وظاهريًا على أنها ديمقراطية.
لذا نجد ان إصلاح النظام السياسي هو المفتاح لتجنب الانهيار الوشيك ، اذ يعد إصلاح النظام الحزبي في العراق مقدمة ضرورية لإصلاح العملية الانتخابية بحيث تنتج حكومة فاعلة وفعالة وبرلمان مستقر لذلك فإن إصلاح قانون الأحزاب السياسية لا يقل أهمية عن إصلاح قانون الانتخابات فوجود العديد من الأحزاب لا يشير بالضرورة إلى عملية سياسية ناضجة ، بل يعكس حالة من التشوش والارتباك السياسي ، ولا سيما الجزء الأكبر منها هو أحزاب موسمية تتشكل عادة قبل الانتخابات ولا تمارس أي أدوار سياسية أو اجتماعية بعد ذلك.
أضف الى ذلك فعلى الرغم من أن الدستور العراقي وأدبيات معظم الأحزاب السياسية العراقية تؤكد على مفهوم المواطنة والوطنية ، الا أن الغالبية العظمى منهم تفتقر إلى التمثيل الوطني الشامل ، وغالبًا ما تقوم على هويات إقليمية أو دينية أو طائفية ، حيث لم ينجح أي حزب أو كتلة سياسية في الفوز بمقاعد في جميع محافظات العراق في أي انتخابات حتى الآن. باستثناء محاولة واحدة من قبل أحد الائتلافات في انتخابات 2018 للتنافس في جميع المحافظات الثمان عشر ،حيث تركز الأحزاب العراقية بشكل ضيق على مناطق وطوائف وأعراق معينة على الرغم من شعاراتها الوطنية.
حيث ان تتنافس الاحزاب على المستوى الوطني في الانتخابات البرلمانية امرا قد يسهل تشكيل حكومات أكثر فاعلية وأقوى وأكثر انسجامًا كما سيضمن وجود معارضة كبيرة نسبيًا يمكنها مراقبة أداء الحكومة دون خوف من تدخل الحكومة أو تجاوزها على الأقلية السياسية.
علاوة على ذلك ، فإن تأخير تنفيذ المادة (65) من الدستور ، التي تتطلب انشاء مجلس الاتحاد أعاقت فرصة أخرى للدخول في عملية سياسة سياسية رصينة ومدروسة، في ظل غياب هذه الهيئة المهمة ، اضطرت القوى السياسية لملء الفراغ من خلال الاستعانة بشخصيات أو جهات سياسية ودينية غير منتخبة أو اطراف من خارج العراق.
وهو ما يظهر الحاجة الى الحاجة إلى رؤية وطنية عراقية مشتركة جديدة ليتطلب الامر إعادة تصميم النظام السياسي وإعادة هيكلته ليكون قادرًا على إنتاج حكومة فاعلة ومتماسكة وتمثيلية. ويمكن أن تكون الخطوة الأولى الممتازة في تعديل المادة( 11) من قانون الأحزاب (رقم 39 لسنة 2015) لإلزام الأحزاب الراغبة في المشاركة في الانتخابات الوطنية بالحصول على حد أدنى من الأعضاء في كل محافظة الامر الذي سيؤدي ذلك إلى إنشاء أحزاب وطنية كبيرة من شأنها تسهل تشكيل حكومات أكثر استقرارًا ، كما يجب تطبيق المادة الخامسة من نفس القانون والتي تنص بوضوح على أن : (الحزب يقوم على أساس المواطنة) و (لا يجوز تأسيس الحزب على أساس العنصرية أو الإرهاب أو الكفر أو التعصب الطائفي أو العرقي أو القومي) من شأن تنفيذ ذلك أن يدعم هدف فصل الأحزاب الفيدرالية عن الأحزاب المحلية ،أضف الى ذلك توجيه الاقتصاد لتسهيل عملية تحفيز النمو وخلق فرص عمل لائقة في مجتمع منتج ،حيث تم إنشاء العديد من الوزارات والدوائر الحكومية لخدمة أهداف ورؤى لدولة قبل عام 2003 وهو ما يتطلب إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بما يتماشى مع الرؤية الدستورية الجديدة الداعية إلى الإصلاح الاقتصادي وتنويع الموارد وتشجيع القطاع الخاص حيث يجب إعادة تقييم جدوى العديد من الهياكل الحكومية وفقًا للمبادئ الاقتصادية الحديثة. وهذا يتطلب تحديد مسار واضح للإنفاق على شكل قانون ميزانية لمدة ثلاث إلى خمس سنوات يمكن تعديله جزئيًا كل عام ، دون تغيير اتجاهه الرئيسي بدون ربط خطة الإصلاح بالميزانية حيث سيكون الاصلاح مجرد شعار فارغ آخر ، وأخيراً ضمان اتفاق ممثلين من مختلف أنحاء المجتمع على أهداف وطنية رفيعة المستوى تشكل رؤية عراقية لعقد قادم حيث تكون مهمة الحكومات المتعاقبة التنافس حول كيفية تنفيذها بما يمكن من تحقيق حزمة الإصلاحات من خلال اللوائح الجديدة والقوانين والتعديلات الدستورية وعملية الحوار الوطني ، بهدف نهائي هو بناء الثقة بين المواطن والنظام السياسي.
من المرجح والوارد أن تواجه الجهود المبذولة لتحقيق مثل هذه الإصلاحات الشاملة عقبات سياسية وقيود قانونية ، وقد تتطلب تعديلات دستورية في بعض المجالات وبالرغم من ذلك ، فإن مخاطر إهمال أو تأخير التغييرات السياسية المطلوبة للسماح بالإصلاح السياسي والاقتصادي والهيكلي الشامل ستكون خطيرة حتى الآن، لا يزال أمام صانعي القرار فرصة تتضاءل لإتخاذ مسار مختلف ، بدءًا من مراجعة شاملة وتقييم موضوعي لأسباب فشل النظام الجديد في تحقيق الأهداف المرجوة، فالوقت ينفد بما يعني خسارة صانعو القرار قريبًا الخيارات القليلة المتبقية لتجنب الانهيار المروع المحتمل للعملية السياسية ،حيث أصبحت العملية السياسية بالية وتفتقر إلى القدرة على التجديد والتغيير اللازمين لإنتاج بدائل لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية ، اذن هل يتطلب إحياء وتنشيط العملية السياسية جراحة معقدة وخطيرة؟ أم سيتم تصحيح الأخطاء ومراجعتها قبل فوات الأوان؟ يمكننا فقط أن نأمل وندعو للخيار الأخير.
د. ايناس عبد الهادي الربيعي