ملخّص بحث الشيخ الدكتور عبد القادر يوسف الموسوم بـ (الخطاب الدينيّ بين منهج الإقصاء والاحتواء.. الخطاب الجهاديّ أنموذجاً)…
للخطاب الدينيّ أهمّية كبيرة في الإسلام وفي دعوته، تجلّت في التركيز على جمع المسلمين في أوقات محدّدة بغية توجيههم بوعي وفهم منظّم الى حقيقة الدعوة والدين اللذين اتّبعوه وآمنوا به، وإذا تابعنا اجتماع المسلمين كلّ يوم جمعة على الخطبة وعلى الصلاة ثمّ نظرنا من بعيد الى الأهداف التي يُمكن أن ترسم لصناعة أجيال صالحة عرفنا كيف نخطّط بحكمة وبوعي وبثقافة وبتحضّر لننشئ مجتمعاً متماسكاً ومتمسّكاً بالحرية والعدالة والحقيقة التي توجّهه الى الخير، وعرفنا بالتالي كيف نظهر الحقيقة الإسلامية التي تكتنفها الإيجابيّات في جميع جوانبها، ليتبيّن غير المسلمين الإسلام الحقيقيّ من الإسلام المتغيّر تبعاً لأهداف رسمها أناس حكموا فخالفوا شريعة الله تعالى بالقوّة والتخويف والتعذيب والإذلال للمسلمين وغير المسلمين على حدٍّ سواء، وذلك بعد أن ألغوا العمل بآيات القرآن وصار عندهم أوجب الواجبات هو الإكراه في الدين، والربّ تبارك وتعالى هو الذي أنزل الى نبيّه (صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله) قوله: (لا إكراه في الدين) لقد سقطت معظم الأمّة بعلمائها وبمفكّريها وقادتها عبر العصور في أتون الجاهليّة، فتلوّثت أفكارها ومذاهبها وعقائدها التي بها استباحت دماء الأبرياء، فكانت أوّل الدماء المستباحة هي دماء آل بيت النبيّ الطاهرين (صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله) ما يؤكّد على أنّ الأمّة بسبب خطابها الإقصائي اللابس لبوس الإسلام القائم على العصبيّة الجاهليّة لم تراعِ حرمةً لآل بيت النبيّ الطاهرين (صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله) وإذا عجزت هذه الأمّة نفسها عن الخروج من دائرة العصبيّة الجاهلية فلم تراعِ حرمةً لمن أمر الله تبارك وتعالى بمودّتهم في كتابه إذ قال: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) فإنّها لم تستطع أن تراعي حرمةً لإنسان يخالفها الرأي والعقيدة والمذهب، وستستغلّ اسم الإسلام واسم نبيّ الإسلام في تحقيق أطماعها الوحشية، كما استغلّت ذلك ساعة انتقال النبيّ الى ربّه حيث ألغت عهوده واعتدت على فلذة كبده ومهّدت الى قتل وصيّه وسبطيه، ذلك هو العجز الأوّل الذي انغمس في نفوس أبناء الأمة بمعظمهم وخطّ خطوطاً عريضة بخطاب إقصائيّ كان من أهم أهدافه أن يلغي الصورة الحقيقية للإسلام، وأن يمحو كلّ أثر باقٍ لها في النفوس، وعلى منهاج العاجزين سلكت الأمّة الطريق إلّا ما رحم الله، واتّخذت من منهاج الأوّلين سلفاً يجب اتّباعهم ويجب اقتفاء آثارهم، وإلّا فإنّ الإنسان الذي يخالف منهاجهم يكون خارجاً من دين الله تعالى وخارجاً على شريعة ربّ العالمين.
من هذا المنطلق أيّها الأحبّة كان لابدّ من التعرّف على الخطاب الدينيّ وتحديد طبيعته، أهو خطاب إقصائيّ يلغي الآخر يُحارب الآخر الى أن يدخل في دين الإسلام كرهاً؟ أم خطاب احتوائيّ يدعو الى تقبّل الآخر ويعترف به ويتعارف معه ليلتقي على الخطّ الإنسانيّ الجامع (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) يلتقي عند الخطّ الإنساني الجامع الذي يكفل احترامه ويكفل حريّته حتى في ساحة القتال، والدعوة الى الجهاد الذي لا يكون في الإسلام إلّا متى ما رفع الآخرون سيوفهم في وجوه المسلمين، إنّ الأمّة أيّها الأحبّة متى ما درست طبيعة الخطاب الجهادي وأبعاده وأهدافه أدركت بأنّ الإسلام دينٌ احترم خيارات الإنسان الذي لم يتقبّل ولم يقبل شرائع الله تعالى ولا كتبه، وعامله معاملة إيجابيّة قائمة على التوادّ والتناصح الإنساني وعامله معاملة إيجابيّة لا تختلف عن معاملة أيّ مسلم وأيّ مؤمن، وأدركت هذه الأمّة بالتالي أنّ الأصل بالخطاب الدينيّ سواء في ساحات الوغى أو السلم هو خطاب احتوائيّ يحتوي الآخرين ويُشعرهم بالأمن والطمأنينة، عبر فتح دائرة نيّرة تسمح لهم بمتابعة الفكر وبالتعامل معهم بناءً على قانون العدالة والتقدير والتكريم والاحترام، أيّها الأحبّة وإذا ما أردنا أن نلقي نظرة سريعة على هذا التطبيق العمليّ الجهاديّ الذي مارسه نبيّنا الأعظم (صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله) فإنّ كتباً لن تسع لمثل هذا الموضوع، أحبّ أن أذكّركم بدايةً بأنّ نبيّنا (صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله) مكث ثلاثة عشر عاماً في مكّة المكرّمة يدعو الناس الى الإسلام سلماً ويحتويهم، وقريش تعامله بلغة الإقصاء، ثمّ عندما أراد نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يوصل هذه العقيدة السمحة الى قلوبهم هاجر الى المدينة المنوّرة، وبعثت قريش من بعثت خلفه ومنهم من بُعث لقتله ومنهم من بعث طابوراً خامساً ليتتبّع كلّ حركات النبيّ الأعظم (صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله)، نبيّنا كان يعرف كلّ منافقٍ انتقل من مكّة الى المدينة لكنّه كان يعاملهم بلغة الاحتواء، نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلم) عندما كان في رحاب وفي ساحة معركة أحد فانهزم ثلث الجيش انهزم الكثيرون، وانهزم أهل مكّة الذين ما كانوا يريدون قتال إخوتهم الذين هم على دينهم وهم ما خرجوا مهاجرين لله ورسوله إنّما خرجوا لدنيا يريدونها، ثلث الجيش ترك النبيّ الأعظم في ساحة الوغى ليلاقي الحتف والموت، ونبّينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) صمد في ساحة المعركة وواجه الموت، وعلم كلّ الناس أنّ دين الإسلام وأنّ شريعة الإسلام تبذل دونها الدماء رخيصةً، وعلى هذا الأساس أيّها الأحبّة بذل آل البيت دماءهم اتّباعاً لمنهاج نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ماذا فعل نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد أن رجع الى المدينة؟! هل أعدم أولئك المتخاذلين؟! هل أعدم أولئك الذين تخاذلوا وتركوا النبيّ للموت في ساحة المعركة؟! كلّ قوانين العالم تنصّ على أنّ من اتُّهِم بالخيانة العظمى فجزاؤه القتل والموت، وهل هناك خيانةٌ أعظم من أن يُترك النبيّ الأعظم ليلاقي حتفه على أيدي المشركين؟!! وتفرح تلك الثلّة التي كانت تدّعي الإسلام وتلبس لبوسه.