حلقات ما بعد انتصار الله 3 “أبو علي: بين الاستثمار في الاغتراب والشهادة في الوطن”

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «وكالة نسيم كربلاء الخبرية»
في بلدة مجدل السلم المناضلة، إحدى القرى الممتدة على ضفاف وادي السلوقي، نشأ أبو علي وترعرع بين تلالها ووديانها. كان متشبّعًا بروح الانتماء لأرضه وتاريخ عائلته، وكانت أزقة المجدل تسعى له ولأقرانه، يلعبون ويمرحون وكأن الدنيا بأسرها ملكهم. نشأ في عائلة عريقة، تعتز بالنضال والمقاومة، وكان يحلم دائمًا بمستقبل أفضل لعائلته وقريته. لكنه، مثل الكثيرين من أبناء الجنوب الصامد، وجد نفسه مضطرًا للسفر إلى بلاد الاغتراب بحثًا عن فرص أوسع لتحقيق طموحاته.
مع مرور السنين، جرى أبو علي خلف فرص الاستثمار في بلاد الاغتراب، وجاهد ليلًا ونهارًا ليصل إلى ما وصل إليه. جمع كل مدخراته وأعد أوراقه للسفر من أجل مشروع جديد، كان يأمل أن يغير حياته. كان المشروع استثمارًا كبيرًا في التجارة الدولية، وكان أبو علي يظن أن هذا هو طريق النجاح والازدهار الذي ينتظره.
وفي أحد الأيام الشتوية، بينما كان يستعد لتوديع أهله، جاءه نبأ مفجع: استشهاد ابن عمه حسن. كان حسن شابًا وسيمًا، مؤدبًا وخلوقًا، وكان يقاتل في صفوف المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، واستشهد في معركة على تلال كفرشوبا. كان ابن عمه قريبًا من عمره، يجسد بالنسبة لأبي علي القوة والإيمان بالشهادة من أجل الوطن. بينما اختار أبو علي طريق المال والاستثمار، اختار ابن عمه طريق الاستثمار مع الله في جنة عرضها السماوات والأرض، وهو طريق التضحية.
جلس أبو علي بين أوراق سفره، يفكر بعمق ويتأمل في أيامه الماضية والقادمة. تذكر كيف كانا يتحدثان عن المستقبل، وكيف أن ابن عمه دائمًا ما كان يؤكد له أن الاستثمار في الشهادة أعظم وأهم من أي استثمار آخر. قال له ذات يوم: “يا أبو علي، المال سيأتي ويذهب، لكن الشرف الحقيقي هو أن تضع روحك على أكفك وتدافع عن أرضك وعرضك. هذا هو الاستثمار الذي لا يخسر أبداً.” كان ابن عمه يردد دائمًا أن الشهادة استثمار المبدعين والأذكياء، وهي تملك لغة لا يفهمها إلا أصحاب الحس المرهف والعقل الرصين.
عندما وصله خبر استشهاد حسن، شعر أبو علي بارتباك داخلي. كان يخطط للسفر ويحمل آمالًا كبيرة لتحقيق النجاح في الغربة، لكن استشهاد ابن عمه هزه بشدة حتى أنه لم ينم ليلته من الحزن والبكاء. أدرك أن ابن عمه قدم أغلى ما يملك في سبيل قضية أسمى، بينما هو يسعى وراء المال.
وقف أبو علي أمام أوراق السفر والتأشيرات، يتأملها. كان يعلم أن مشروعه في بلاد الاغتراب قد يحقق له المال، لكنه الآن أدرك أن هناك استثمارًا أعظم وأثمن: الاستثمار في الدماء التي تسفك من أجل الحرية والشرف، والاستثمار في الشهادة من أجل الوطن. تذكر كلمات ابن عمه وهو يبتسم بثقة: “أنا لا أستثمر في شيء يزول. أنا أستثمر في الخلود.” وها هو اليوم قد حقق وعده واستشهد، تاركًا وراءه إرثًا لا يقدر بثمن.
في تلك اللحظة، قرر أبو علي العودة عن قراره بالسفر. أدرك أن ما تركه ابن عمه من إرث الشهادة والبطولة هو أعظم من أي استثمار مادي. لم يكن المال أو التجارة ما سيخلده، بل الدفاع عن أرضه تمامًا كما فعل ابن عمه. أمسك أوراقه بيدين مرتعشتين، ثم مزقها بهدوء. كان يعلم أن الاستثمار الحقيقي ليس في المال، بل في التضحية من أجل الوطن ومن أجل رضى الله.
بينما كان يتأمل في السماء، شعر بأن روح ابن عمه تبتسم له وتؤكد له أنه اتخذ القرار الصحيح. لقد أدرك أبو علي أن الاستشهاد هو أعظم استثمار، استثمار في الكرامة والحياة الأبدية، حيث لا يزول الأثر ولا تخبو الذكرى. لقد كانت الخطوات الثابتة التي أدت إلى تحقيق أمنية أبي علي، الذي بدأ رحلة الاستثمار الأعظم في حياته. وكان يدعو الله أن يرزقه الشهادة في سبيل الله والوطن، مرددًا في صلاته: “ربنا ارزقنا خير ما رزقت عبادك الصالحين.”




