النجف.. صمام أمان الأمة وصوت الحكمة في مواجهة العدوان الصهيوني: قراءة استراتيجية في بيان المرجعية العليا

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «وكالة نسيم كربلاء الخبرية»
لا يمكن لأي مراقبٍ موضوعيٍ لمسار الأحداث في منطقة غرب آسيا اليوم أن يُنكر حقيقة أن صوت النجف الأشرف حين ينطق إنما ينطق بمسؤولية دينية وأخلاقية قبل أن يكون فعلاً سياسياً محضاً.
من هنا يأتي البيان التاريخي الصادر عن مكتب المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) بتاريخ 19 حزيران 2025 ليؤكد هذه الحقيقة من جديد ويضعها في سياق مواجهة مصيرية عنوانها: صمود الجمهورية الإسلامية الإيرانية في وجه عدوانٍ متعدد الأوجه تقوده قوى إقليمية ودولية أبرزها الكيان الصهيوني الذي طالما توهم بقدرته على الهيمنة على القرار السياسي والأمني للمنطقة.
بيان النجف: عقيدة مستقلة في زمن الاضطراب
حين أصدرت المرجعية العليا بيانها المدوي لم يكن ذلك بدافع المجاملة أو الانتصار لطرفٍ دون آخر بل إيماناً عميقاً بأن ما يحدث من عدوان على الجمهورية الاسلامية الايرانية لا يستهدف دولة بعينها فحسب وإنما يستهدف جوهر الاستقلال والكرامة للشعوب المسلمة.
إن المرجعية لم تكتفِ بالإدانة الأخلاقية المعتادة بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حين وصفت العدوان بـ «العدوان العسكري» مستخدمةً تعبيراً دقيقاً يحمل حكماً شرعياً وقانونياً معاً يُخرج الحرب الجارية من كونها صراعاً عسكرياً إلى كونها فعلاً عدوانياً فاقداً لأي شرعية دينية أو قانونية أو إنسانية.
إن دلالة هذا التوصيف عميقة جداً فهي تضع العدوان الصهيوني – الغربي في موقع المجرّم المعتدي وتُمنح الشعب الإيراني في المقابل صفة المعتدى عليه ما يُحول موقف الدفاع الإيراني من كونه مجرد خيار عسكري إلى واجب شرعي وأخلاقي تُقره القيم الإسلامية والقوانين الدولية معاً.
النجف: عقل الإسلام التأملي وضمانة استقرار المنطقة
لطالما كانت مدرسة النجف الأشرف هي «عقل الإسلام التأملي» كما يحلو للعديد من الباحثين تسميتها فهي تُصدر مواقفها من منطلق التراكم التاريخي الفقهي والأخلاقي وتزن كلماتها بميزان من الحكمة والحذر مدركةً أن كل بيان يصدر عنها سيكون له أثر استراتيجي عميق على مسار الأحداث سواء أحب الخصوم ذلك أم لم يحبّوا.
في هذا البيان لم تكن المرجعية في وارد تسجيل موقف عاطفي عابر بل قدّمت «إشارة تحذيرية مبكرة» تُدرك من خلالها أن استمرار العدوان سيقود إلى «عواقب بالغة السوء» تتجاوز حدود إيران لتصل إلى كل عواصم الإقليم بما في ذلك تل أبيب التي تتوهّم أنها في منأى عن نيران الغضب الشعبي والمقاوم إذا تطورت الأمور.
إن هذا التحذير لا ينبع من معلومات استخبارية أو تقارير سياسية فقط بل من بصيرة دينية متراكمة تدرك أن الحرب متى اشتعلت بين طرفٍ معتدٍ وصاحب حقٍ يدافع عن وجوده ستنقلب مع الوقت ضد المعتدي نفسه وسيصعب احتواء تداعياتها خاصةً إذا كانت المواجهة تمس رموزاً دينية وسياسية ترتبط وجداناً بقطاعات واسعة من الأمة الإسلامية.
شرعية دينية وقانونية: قوة مزدوجة في خطاب النجف
لقد أكدت المرجعية في أكثر من موضع على أن ما يحدث هو «تجاوز واضح للمعايير الدينية والأخلاقية» و«انتهاك صارخ للأعراف والقوانين الدولية»، لتُخرج الحرب من سياق المبررات السياسية الضيقة وتضعها في إطار جريمة مزدوجة: دينياً وقانونياً.
وهنا تتجلى براعة النجف في صياغة خطابٍ جامع: فهي لا تمنح الجمهورية الاسلامية الايرانية شرعية دفاعها عن نفسها فقط من منطلق المظلومية الدينية بل تقدم للعالم مادة قانونية تضع المعتدي في خانة المنتهك للأعراف والقوانين الدولية التي تؤكد على حق الدول في السيادة وعدم التدخل.
هذا التوازن جعل من خطاب المرجعية ورقة قوية بيد إيران في المحافل الدولية فمن جهة هو بيان ديني ينطلق من مرجعية تحظى باحترام الملايين ومن جهة أخرى هو وثيقة قانونية يمكن لإيران الاستناد إليها في أي مواجهة قانونية مستقبلية مع الدول التي تدعم العدوان.
الرمزية القيادية: تحذير من المساس بثوابت الاستقرار
من أهم النقاط التي لم تغفل عنها المرجعية هو تحذيرها الصريح من المساس بـ «القيادة الدينية والسياسية العليا» في إيران.
إن استهداف الرمز في الثقافة الإسلامية يُعتبر محرّماً دينياً ومدمراً سياسياً لأن اغتيال الرمز لا ينهي الصراع بل يُدخله في دوامة ثأر لا تنتهي.
لقد خبرت النجف هذه الحقيقة عبر تاريخ طويل من الصراع ضد الاحتلالات والقوى المتغطرسة فكانت على يقين أن تحييد الرمز يعني تحييد فتيل الفتنة بينما استهدافه يعني تفجيرها.
بهذا التحذير تكون المرجعية قد قدمت ضمانة استقرارٍ للإقليم بأسره ووجهت رسالة للكيان الصهيوني أن رهانكم على إضعاف القيادة الإيرانية باغتيال الرموز الدينية أو السياسية لن يحقق هدفكم في تركيع الشعب الإيراني بل سيجعل إيران أكثر تماسكاً وأكثر شرعية في دفاعها عن وجودها ومقدساتها.
كيف يعزز هذا البيان صمود إيران؟
من الناحية العملية يعزز هذا البيان موقف إيران على عدة مستويات:
1️⃣ شرعية الدفاع: المرجعية منحت الإيرانيين غطاءً دينياً وأخلاقياً للاستمرار في المقاومة وأكدت أن أي تسوية يجب أن تكون عادلة لا مذلة.
2️⃣ تفكيك الأسطورة الصهيونية: جاء البيان ليُحطم جزءاً من أسطورة التفوق العسكري الصهيوني إذ كشف هشاشة قدرة الاحتلال على حسم المعركة أو إسقاط النظام الإيراني رغم كل وسائل الحرب الناعمة والصلبة.
3️⃣ حشد الحواضن الشعبية: الخطاب وجه رسالة ضمنية لشعوب المنطقة بضرورة الوقوف مع إيران لأنها تدافع عن كرامة الأمة جمعاء لا عن حدودها فحسب.
4️⃣ تأكيد وحدة الجبهة الداخلية: المرجعية ركزت على مفهوم الوحدة الداخلية واللحمة الشعبية وهو ما يُعد أهم أسلحة إيران الاستراتيجية في مواجهة الأزمات والحروب.
نتائج الحرب بعيون النجف: نصرٌ هادئ ومكاسب استراتيجية
مع اقتراب لحظة الحسم يفرض الواقع على الجميع أن يعترف بأن إيران لم تُهزم ولم تستسلم بل خرجت من الحرب أكثر صلابةً وقوة ويمكن تلخيص النتائج على ضوء رؤية المرجعية كالتالي:
✅ صمود ثابت رغم شدة العدوان.
✅ إفشال مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي كانت تنسجه عقول الكيان الصهيوني وحلفائه.
✅ استمرار البرنامج النووي الإيراني في مساره رغم كل العقوبات والضغوط مع مؤشرات على قرب الاعتراف الدولي به كحق مشروع.
✅ وحدة داخلية شعبية قوية متماسكة حول القيادة.
✅ كسرت إيران شوكة الاحتلال في ساحات المواجهة وأظهرت هشاشة منظومته الأمنية.
✅ طورت قدراتها الصاروخية بشكل نوعي واختبرت أجيالاً جديدة أدخلتها في معادلات الردع.
✅ أسقطت أسطورة الدفاعات الجوية الصهيونية وأظهرت محدودية تفوقه التقني.
✅ عززت حضورها الدبلوماسي كرقم صعب في التوازنات الدولية.
✅ وأكدت موقعها الإقليمي كلاعبٍ محوري بلا منافس فعلي.
خاتمة : النجف عقل الأمة ودرعها الأخلاقي
إن البيان الأخير لمكتب الامام السيستاني (دام ظله) يثبت مرة أخرى أن النجف تبقى حجر الأساس في استقرار الأمة الإسلامية.
فهي ليست طرفاً في الاصطفافات الضيقة ولا تدافع عن طموحات قومية بل ترسم مساراً أخلاقياً يرشد الشعوب إلى أن كرامتها فوق كل اعتبار وأن الدفاع عن النفس حق مقدس حين يكون العدوان عارٍ عن أي شرعية.
هكذا تنتصر الجمهورية الاسلامية الايرانية اليوم وهي تحمل رسالة النجف: مقاومة العدوان كرامة الأمة ورفض الهيمنة الصهيونية.
وبقدر ما حاول الاحتلال جر إيران إلى الاستنزاف وجد نفسه في مواجهة مجتمع أكثر تماسكا وقيادة أكثر شرعية ومرجعية دينية تقف كصخرة أمام موجات التآمر.
وبهذا فإن الحرب – التي ظنها البعض ستُنهك إيران – كانت في الحقيقة فرصة لتعيد إيران إنتاج قوتها وتطور أدوات الردع وتكسب اعترافاً ضمنياً بأنها باتت دولة إقليمية عصية على الاحتواء.
لقد حمل بيان النجف دروساً ثمينة للأمة: أن من يملك مرجعيةً أخلاقية راسخة لن تهزمه الجيوش ولا الحروب وأن من يعتدي على شعب مؤمن بقيادته وبمرجعيته سيجد نفسه غارقاً في مستنقع لا قرار له.
إنه صوت الحكمة في زمن الضجيج، ضميرٌ يقظ وسط ضباب الدخان وبوصلةٌ تهدي الضائعين إلى أن الحق لا يُهزم وأن الكرامة لا تُباع وأن الأرض لا تُفرط ما دامت تحرسها أرواحٌ مؤمنة ومرجعياتٌ حرة لا تخشى في الله لومة لائم.