المقالات

غبار المجد الزائف

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «وكالة نسيم كربلاء الخبرية»

بقلم :  رياض الفرطوسي

ما الذي يدفع أمةً كاملة لتصدق أن الحديد والنار يبددان المخاوف العميقة الراقدة في وجدانها؟ يعلّمنا التاريخ أن القذائف لا تعيد ترتيب شرفات المنازل، ولا تمنح المقاتل يقيناً بجدوى ما يفعله، حتى وإن صدح قادته بخطابات الفخر والظفر. في اللحظة التي تشتعل فيها أول شرارة في سماء مدينةٍ لم يكن أهلها يتوقعون أن يفيقوا على أصوات الانفجار، تبدأ الحقيقة في التعرّي: كل معركة هي نزاع بين قلقين، صراع بين أوهام التفوق ورعب الاندثار.

لطالما تخيل الطغاة أن الطيران الكثيف يشبه جناحي إله يهبط ليقلب الموازين في ساعات. لكن الزمن يثبت أن السماء لا تحفظ وعد أحد. يكتشف الجنرالات أن الخرائط، مهما زينوها بالأسهم والخطط، تنكمش في لحظة واحدة حين يقف الخصم المثقل بالجراح ليقول: ما زلت هنا. لا تنتهي الحروب بانتصارٍ صافٍ، بل بخسائر تتوزع على كل الجهات، وخطابات تعلن نصراً لا يقوى على أن يخفي خيبته.

في كل حرب، ثمة روايات تولد وتموت قبل أن تُكتب. رجال لم يعودوا، ونساء علقن صورهم على الجدران. مصانع تحترق، ومخابئ تغص بالأطفال. وبرغم جلال العناوين التي تسوّقها الصحف، يظل المشهد نفسه: خراب يتقدم، ووعود بالسلام يطلقها من أشعلوا الفتيل. وحين تهدأ المدافع قليلاً، تستيقظ الأسئلة الحارقة: لمن كل هذا الدمار؟ ومن تراه سيحصي الأرواح المبعثرة في الزوايا المنسية؟

الحرب، مهما بدت دقيقة في تقنيتها أو مذهلة في عنفها، لا تخلق إلا هشاشة جديدة. هي استعراض طويل لرغبة البشر في إزاحة خوفهم نحو الآخرين، اعتقاداً أن سحق الخصم يحرر الروح من قلقها الأزلي. لكن لا شيء يزول سوى اليقين. ومع مرور الأيام، تنبت من بين الأنقاض حكايات مريبة عن شجاعةٍ فائضةٍ وخسارةٍ صامتة. وتنبت مع تلك الحكايات بذور حروبٍ أخرى، تنتظر أن يُسقى جموحها بالخطب والاناشيد والخرائط الجديدة.

وحدها الشعوب تعرف أن الرصاص لا ينبت شجراً، وأن المدن لا تبني ذاتها بركامٍ جديد. أما الذين يلوحون برايات الغلبة، فهم أكثر الناس خوفاً من الزمن حين ينقش على جدرانهم ما اقترفوه. إذ لا شيء يحرر الذاكرة من وصمة الدمار، ولا شيء يخلّد دولةً أمعنت في إذلال إنسانٍ لم يكن يطمح سوى لحياة عادية.

إن الحرب، في جوهرها، خرافة متقنة الصنع. كل الأطراف يزعمون أنهم يكتبون آخر فصول العداوة، وأنهم على شفا نصرٍ تاريخي. لكن التاريخ لا يحفل كثيراً بمن رفع علمه عالياً لساعةٍ أو ليلة. بل يلتفت إلى ما تركته تلك النشوات القصيرة: يتامى يبحثون عن آبائهم، ومدنٌ غمرتها رائحة البارود، وعالمٌ يزداد جهلاً بمكامن إنسانيته.

حين يقرر أحدهم أن يطلق القذائف باسم المجد، فلعل عليه أولاً أن ينظر في عيون الناجين. هناك وحدها يفهم أن ما ظنه نصراً لم يكن سوى فصلاً آخر من السخرية الكبرى: سخرية الحروب حين توهمنا أننا نستطيع بقبضة النار أن نصحح خطايا التاريخ.

اترك رد

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار