المقالات

الحزن الذي نختاره… حين يبكي العالم من كربلاء

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «وكالة نسيم كربلاء الخبرية»

بقلم : الاستاذ حسين النعمة 

في قوانين النفس، تُعد السعادة غايةً غريزية، والحزن منبوذاً بالفطرة. تهرب النفس من الألم كما يفرّ الطير من القيد، وتتوق إلى الضحك كما يتوق الزهر إلى المطر. إلا في عاشوراء… كل هذه القوانين تتعطّل، كل الغرائز تنحني، وكل نوازع الإنسان الفطرية تُروّض برغبة عجيبة نحو الحزن، حزنٍ لا يُفرض، بل يُستدعى.
هنا، في كربلاء، يولد نوع فريد من البكاء، لا يشبه ضعيفًا يُقهَر، ولا حزينًا يُفجَع، بل بكاء يشبه الثورة… يشبه الوعي.

في عاشوراء، لا يهرب الناس من الألم، بل يطلبونه، يتوسّلون بدمعة، ويتزاحمون على فتات حزن يُذكّرهم بإنسانيتهم. فترى الرجال ينوحون كالأطفال، والنساء يخنقن الزفرات كأنّ الحسين قريب من ضلعهن، وترى الشيوخ والشباب يسيرون حفاة على طريق من نار الذكرى، لا طلبًا للجَلد، بل طلبًا للخلود في لحظة الحق.

أيّ سرّ هذا الذي يجعل الإنسان يأنس بالبكاء إذا كان الحسين هو السبب؟
كيف للدموع أن تصبح وسامًا لا ضعفًا؟
وللطَرق على الصدور أن يكون انتصارًا لا انكسارًا؟
وكيف لشعور بالحزن أن يتحوّل إلى نشيد أمة، وهوية جيل، ومحرّك للتاريخ؟

الحسين ليس مأساة، بل وعي يتخفّى في الحزن.
ومن يبكيه لا ينوح على قتيل، بل يوقّع شهادة رفض للطغيان، وتوثيقًا حيًّا بأن الدم ما زال ينتصر على السيف، وأن الطفل المذبوح في الظهيرة أقوى من قلاع السلطة وعرش الجبابرة.

الحزن في عاشوراء ليس انكسارًا داخليًا، بل إعلان انتماء خارجي لعالمٍ أسمى من التواطؤ والنسيان.
لهذا، ترى الملايين تسير نحو كربلاء لا فرارًا من الحياة، بل توقًا لحقيقة تُشعل الحياة.
تُقام المجالس لا لتجديد الحزن فقط، بل لتجديد الموقف، وتجديد العهد، وتجديد كينونة الإنسان.

كل العالم يمجّد السعادة كقيمة، إلا أن الحسين أثبت أن الحزن المختار أعظم من فرحٍ زائف.
وأننا أحيانًا لا نكتشف حقيقتنا إلا حين نبكي، لا من انكسار، بل من وعي.
نبكيه… لأننا حين نبكي الحسين، فإننا في الحقيقة نبكي أنفسنا التي تاقت يومًا للعدل، وفقدت يقينها في صخب الحياة، فوجدته في كربلاء.

ومنذ ذلك اليوم… صار الحزن شعيرة، وصار البكاء نهجًا، وصار الحسين سؤالًا خالدًا:
هل عرفتَ لماذا تبكي؟
أم أن دمعك يعرف ما لا تعرفه روحك؟

في عاشوراء، فقط، تنقلب معادلات النفس، ويصير الحزن خلاصًا، لا سجنًا… ويصير الحسين وطنًا في القلب لا يُغادر، حتى حين ينقضي العزاء.

اترك رد

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار