تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «وكالة نسيم كربلاء الخبرية»
مَا زال الزعيم عبدالكريم قاسم الذي فجر ثورة 14 تموز 1958 والبعض يطلق عليها إنقلاباً عسكرياً مثار جدل ونقاش وبعضهم يرى فيه دكتاتوراً ويرى البعض الآخر بأنه مؤسس الجمهورية العراقية ، وبين هذا وذاك فإن أغلب العراقيين يعتقدون بأن الزعيم كان عادلاً ومنصفاً وأميناً ولكنه أصبح ضحية صراعات الأحزاب ودمويتها ، ويشهد له بقراراته المنحازة إلى المجتمع وخاصة الفقراء منهم وهو الذي أطلق حرية التعبير ووضع الحجر الأساس للحريات العامة وتأسست في ظله مشاريع الإسكان وقوانين لإنصاف كل الأحرار ، كان الزعيم هو البطل الذي أصدر القانون رقم 80 الذي بسط من خلاله سيطرة الشعب على ثرواته النفطية وإنتزع الأراضي من الإقطاعيين ووزعها على الفقراء ووضع الحجر الأساس لمنظمات حقيقية للمجتمع المدني وكان في مقدمتها إقرار قانون نقابة الصحفيين العراقيين الذي كان نقيبها الأول الشاعر محمد مهدي الجواهري .
حقق قيام النظام الجمهوري في العراق، تطورات إيجابية كثيرة، في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والصحفية، وفتح الباب على مصراعيه لتأسيس النقابات والجمعيات والمنظمات المهنية بشكل لم يشهد العراق له مثيلاً في السابق، وأغتنم الصحفيون العراقيون الفرصة، ويقول فائق بطي في كتابه (الموسوعة الصحفية) أن 45 صحفياً ، وكان هو أحدهم ، اجتمعوا في نادي المحامين ببغداد ، وتدارسوا مشروع تأسيس نقابة للصحفيين ، واتفقوا على إختيار لجنة تأسيسية ضمن 11 صحفياً لإعداد الترتيبات الأولية للمشروع، والحصول على موافقة الحكومة وفي تقديرها، أن هؤلاء الصحفيين الخمسة والأربعين ، بصفتهم الجماعية، وليس واحداً منهم ، أو بعضاً منهم ، هم مؤسسي أول نقابة للصحفيين في العراق .
وضمت اللجنة التأسيسية التي إنبثقت عن الإجتماع ، الأسماء التالية محمد مهدي الجواهري (صاحب صحيفة الرأي العام)، يوسف إسماعيل البستاني ( ممثلاً عن صحيفة اتحاد الشعب) عبدالله عباس (صاحب صحيفة الأهالي) عبدالمجيد الونداوي (رئيس تحرير صحيفة الأهالي) صالح سليمان ( ممثلاً عن صحيفة صوت الأحرار ) فائق بطي (أحد أصحاب صحيفة البلاد) موسى جعفر أسد ( ممثلاً عن صحيفة الثورة ) حمزة عبدالله ( ممثلاً عن صحيفة خه بات الكردية ، وتعني النضال بالعربية ) صالح الحيدري ( من صحيفة خه بات أيضاً ) حميد رشيد صحفي محترف ، عبدالكريم الصفار صحفي محترف، وانقضى شهران ، دون أن تمارس اللجنة التأسيسية نشاطاً ، سوى النشاطات السياسية ، وفي 8 أيار مايو 1959، قابل أعضاؤها، رئيس الحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، في مكتبه بوزارة الدفاع، وقدموا له مذكرة ، تطلب أجازة نقابة الصحفيين رسمياً.
ويؤكد صالح سليمان ، بأنه عندما وصل الزعيم قاسم ، سأله عن طلباته ( فلم أجد شيئاً أطالب به أو أطلبه ، سوى أن أجد وسيلة توصلني إلى بيتي في مثل هذه الساعة المبكرة من الفجر ، فأمر قاسم أحد ضباطه بإيصالي بسيارة جيب عسـكرية إلى بيتي في الكرادة الشرقية (ووافق قاسم على تأسيس نقابة الصحفيين العراقيين ، ومنحها مساعدة مالية قدرها عشرة آلاف دينار لصرفها على تهيئة مكاتبها في بغداد .
وواصل رئيس اللجنة التأسيسية محمد مهدي الجواهري إتصالاته بالسلطـات الحكومية لتنفيذ مشروع تأسيس النقابة، حتى نشرت (الوقائع العراقية)، الجريدة الرسمية للحكومة العراقية يوم 23 حزيران يونيو 1959 القانون رقم 98 الخاص بالنقابة، ووقعه رئيس وأعضاء مجلس السيادة، ورئيس الحكومة والوزراء كافة، ومن بينهم الزعيم عبد الكريم قاسم، والزعيم محي الدين عبد الحميد وزير المعارف، بصفته وزيراً للإرشاد بالوكالة، ومصطفى علي وزير العدل، وهو أول قانون في تاريخ العراق لنقابة الصحفيين. وأحتوى هذا القانون على 31 مادة، خولت الثامنة والعشرون منها، اللجنة التأسيسية بأعمال الهيئة الإدارية لحين عقد المؤتمر العام الأول وانتخاب هيئة إدارية، وطيلة الشهور الثلاثة المقبلة لم تتمكن اللجنة التأسيسية من عقد مؤتمرها العام الأول ، بسبب الظروف السياسية الداخلية المعقدة ، إذ شهدت آخر شهور عام 1959 بداية الخلاف بين الزعيم قاسم وبين الحزب الشيوعي، الذي يهيمن أنصاره على النقابة ، ونتيجة لذلك هاجمت الصحف المناهضة لهم، اللجنة التأسيسية وأسلوبها في قبول الأعضاء الجدد في النقابة، وإزدادت الحملة حدة قبل أيام معدودة من عقد المؤتمر الأول في 6 أيلول سبتمبر 1959.
وفي البداية أعترض ثمانية صحفيين يوم 1 أيلول بينهم قاسم حمودي صاحب (الحرية) ، وتوفيق السمعاني صاحب ( الزمان) ، وطه الفياض صاحب (الفجر الجديد) والصحفي سجاد الغازي، على ( وجود بعض الأسماء ممن لا علاقة لهم بالصحافة ، وبعضهم مستخدم لدى الدولة) مما يخالف المادة 17 من قانون النقابة التي تمنع إشتغال موظفي الدولة في الصحافة ، وطالبوا بشطب أسمائهم من سجلات النقابة وفي اليوم التالي 2 أيلول . ولكي تضمن الإدارة العسكرية هيمنتها على الحياة الصحفية عشية المؤتمر الأول للنقابة ، أصدر الحاكم العسكري العام الزعيم أحمد صالح العبدي بياناً وجهه إلى أصحاب الصحف والمجلات، وصفه بأنه مجرد ( توجيهات) منه إلى الصحافة، وضمنه إتهاماً لها ( بالإخلال بالأمن)، مع سلسلة طويلة مما هو ممنوع عليها نشره من المقالات والتقارير والأخبار، وما يمكن لها أن تنشره في هذه الأجواء، عقدت نقابة الصحفيين العراقيين مؤتمرها العام الأول بحضور رئيس الحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم ، الذي ألقى في إفتتاحه ، خطاباً عاصفاً طلب فيه من أعضاء النقابة الإلتزام بالفقرتين السابعة والثامنة من المادة الثانية لقانون النقابة، وإعتبر أن هذا الإلتزام هو ( الخدمة الحقيقية للمصلحة العامة) وتنص هاتان الفقرتان السابعة حماية الصحافة من إفسادها على يد الحكومات الاستعمارية ولم يتسن لنا التعرف على سبب تشديد الزعيم قاسم على الإشارة للفقرة السابعة ، وهل كان لدى الحكومة معلومات عن فساد صحفي مصدره حكومات أجنبية ؟ أما تكراره للفقرة الثامنة فله ما يبرره لأن صحف تلك الفترة كانت مملوءة بالأخبار والحوادث المفتعلة دون دليل عليها .
وفي اليوم الثاني للمؤتمر ، السابع من أيلول 1959 ، اشترك 171 صحفياً من أصل 205 أعضاء في النقابة في التصويت لإنتخاب أول هيئة إدارية لنقابة الصحفيين ، ونشرت الصحف، في اليوم التالي 8 أيلول 1959، ومنها صحيفتا (الأهالي) و (الأخبار ) النتائج، وكما يلي : محمد مهدي الجواهري ، نقيباً ، وحصل على 163 صوتاً محمد السعدون ، نائباً للنقيب، وحصل على 106 أصوات، والأعضاء هم لطفي بكر صدقي 160 صوتاً ، قاسم حمودي 103 صوتاً ، عبدالرحمن شريف 154 صوتاً ، وأصبح فيما بعد سكرتيراً للنقابة ، محمود شوكت 96 صوتاً ، جلال الطالباني 162 صوتاً ، فاضل مهدي 161 صوتاً ، محمود الجندي 132 صوتاً ، والأعضاء الإحتياط هم خالد الدرة ، ومنير رزوق . ومن خلال استعراضنا لأسماء الهيئة الإدارية الأولى ، نجد أن جميع أعضائها تقريباً بإستثناء محمد السعدون وقاسم حمودي وفاضل مهدي وخالد الدرة ، كانوا من الموالين للحزب الشيوعي ، وبعد ثلاثة أيام من إنتخابها ، قابلت الهيئة الإدارية رئيس الحكومة الزعيم قاسم ، وإنطلقت في ممارسة مهامها ، فكتبت إلى وزارة الإرشاد بضرورة ( استشارتها قبل منح أي إمتياز جديد) لإصدار الصحف ، وعند ( إختيار الوفود الصحفية التي ترافق الوفود الرسمية في سفراتها خارج العراق ) ولابد من أن يكون الصحفي متفائلاً ببدء العمل النقابي ، لكن تجربة الشهور اللاحقة بعد المؤتمر الأول شهدت أزمة بين الصحف ، وحتى تلك التي يملكها عدد من أعضاء الهيئة الإدارية ، وتبادلت الإتهامات والشتائم ، إلى أن جرى إنعقاد المؤتمر الثاني في نيسان 1960.
هكذا يتصرف ما كانوا يسمونه دكتاتوراً إنتعشت في سنواته القصيرة نقابة الصحفيين العراقيين وإزدهرت حرية التعبير التي خانتها ودمرتها الأحزاب بصراعاتها وأنانيتها وتمردها كما يحدث الآن ما بين أحزاب هذا الزمان.