على الدنيا بعدَكَ العَفا.. عليّ الأكبر أوّل شهيدٍ من بني هاشم في كربلاء
تشير الروايات انه بعد استشهاد أنصار الحسين(عليه السلام) تقدّمَ الهاشميّون يودّع بعضهم البعض، وأوّل مَنْ تقدَّم منهم للحرب أبو الحسن علي الأكبر(عليه السّلام)، فلمّا رآه الحسين(عليه السّلام) رفع شيبته نحو السماء وقال: (اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلامٌ أشبهُ الناسِ خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك محمّد(صلّى الله عليه وآله)، وكنّا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه. اللّهمّ فامنعهم بركات الأرض، وإنْ متّعتهم ففرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائقَ قدداً، ولا ترضِ الولاة عنهم أبداً؛ فأنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يُقاتلونا ويقتلونا).
ثمّ صاح الحسين(عليه السّلام) بعمر بن سعد: (ما لكَ؟! قطع اللهُ رحمك، ولا بارك لك في أمرِك، وسلّط عليك مَنْ يذبحك على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظْ قرابتي من رسول الله(صلّى الله عليه وآله). ثمّ رفع صوته وقرأ: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ثمّ حمل عليُّ بن الحسين(عليه السّلام) وهو يقول:
أنا عليُّ بنُ الحسينِ بنِ علي
نحنُ وربِّ البيتِ أَولى بالنّبِيّ
تا للهِ لا يحكُمُ فينا ابنُ الدعي
أضربُ بالسيفِ أحامِي عَن أبِي
ضربَ غلامٍ هاشميٍّ علويّ..
فلم يزلْ يُقاتل حتّى ضجّ أهلُ الكوفة لكثرة مَنْ قُتِل منهم، حتّى رُوِي أنّه قتَلَ على عطشِهِ مئةً وعشرين رجلاً، ثمّ رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحاتٌ كثيرة، فقال: يا أبه، العطش قد قتلني، وثقلُ الحديدِ قد أجهدَني، فهل إلى شربةِ ماءٍ من سبيل أتقوّى بها على الأعداء؟
فبكى الحسين(عليه السّلام) وقال: (يا بُني، عزّ على محمّدٍ وعلى عليّ وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبوك، وتستغيث بهم فلا يغيثوك. يا بُنيّ، هاتِ لسانك). فأخذ لسانه فمصّه، ودفع إليه خاتمه وقال له: (خذ هذا الخاتم في فيك، وارجع إلى قتال عدوّك؛ فإنّي أرجو أن لا تُمسي حتّى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأُ بعدها أبداً).
فرجع الأكبر عليّ بن الحسين إلى القتال، وحمل وهو يقول:
الحربُ قد بانتْ لها حقائقْ .. وظهرتْ من بعدِها مصادِقْ.
واللهِ ربِّ العرشِ لا نفارقْ .. جموعَكمْ أو تُغمَدَ البوارقْ.
وبمجرّد أن رأى أعداؤه الموتورون أنّ البطل قد صُـرِع، احتوشوه وانهالوا عليه ضرباً بالسيوف، فاعتنق علي الأكبر فرسه، ومن عادة الأفـراس العربيّة أن تفهم إشارة الاعتناق فتعود عندها إلى موطنٍ آمن، ولكنّ الجيش المعادي كان قد أحاط بعليّ الأكبر، وتدفّق الدم من رأسه على عينَيْ الجواد فمنعه من الاهتداء إلى معسكر الحسين، فحمله إلى عسكر الأعداء الذين دعاهم الحقدُ واللؤم أن ينهالوا عليه بسيوفهم ويقطّعوه إرباً إرباً.
وعندما بلغت روحه التراقي قال رافعاً صوته: يا أبتاه، هذا جدّي رسول الله(صلّى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسِه الأوفى شربةً لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول: العجل العجل! فـإنّ لك كأساً مذخورةً حتّى تشربها الساعـة.
فصاح الحسين(عليه السّلام): (قتلَ اللهُ قوماً قتلوك يا بُني، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله! على الدنيا بعدَكَ العَفا).