المقالات
حلقات ما بعد انتصار الله في لبنان 8 عنوان القصة: “الهجرة من جسر أبي الأسود: رحلة العطش والانتظار”

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «وكالة نسيم كربلاء الخبرية»
بقلم الدكتور حسان الزين
كانت عائلة حسن تعيش في قرية طيردبا المجاهدة بسلام بلدة سكنها العلماء والسعداء ، إلى أن حطمت الطائرات الحربية الإسرائيلية ذلك الهدوء بقصفها العنيف الذي أجبرهم على ترك كل شيء خلفهم. لم يكن أمامهم خيار سوى الهروب مع مئات العائلات الأخرى، بحثًا عن الأمان في مناطق لبنان مزور بجسر أبي الأسود.
تكدس أفراد العائلة في سيارتهم القديمة، بينما كان حسن يقود، وزوجته ليلى تحاول تهدئة الأطفال في المقاعد الخلفية. كان صوت القصف يقترب، والخوف في عيون الجميع لا يخفى وبلغ الحناجر . بدأوا رحلتهم باتجاه الشمال، على أمل الوصول إلى نهر الأولي، حيث سمعوا أن هناك ممرًا آمناً.
لكن سرعان ما تحولت الرحلة إلى عشرات الساعات من الانتظار في الزحام الذي لم يكن له نهاية. كانت الطرقات مكتظة بالمئات من السيارات بل بالآلاف ، والناس عالقون في وسط الطريق، بلا حركة. لا ماء، ولا طعام، ولا حتى نقطة أمنية أو عسكرية لتسهيل مرورهم. الأطفال في المقعد الخلفي بدأوا يشعرون بالعطش والتعب. علي، الابن الأكبر، قال بصوت خافت: “أبي، هل وصلنا؟ أريد ماءً”. لكن حسن لم يكن يملك إجابة. كل ما استطاع فعله هو أن يطمئنه بكلمات لم يصدقها هو نفسه.
مرت الساعات ببطء قاتل. العائلات الأخرى كانت مثلهم، منهكة ومنتظرة في طوابير طويلة. كلما مر الوقت، زاد العتب في قلوب الناس، ليس فقط على هذا الوضع الكارثي، بل على غياب الأجهزة الأمنية والعسكرية التي كان من المفترض أن تكون هناك لتنظيم المرور وتسهيل خروج الناس من مناطق الخطر. كان البعض يتساءل بصوت عالٍ: “أين هي الحكومة؟ أين هم المسؤولون؟ كيف يُتركون الناس بهذه الطريقة، ونحن في وضع إنساني قاسٍ؟”
لكن لم يكن هناك جواب. كانت الأسئلة تُطرح في الهواء، وتتبخر كما تتبخر قطرات العرق على جبين الأطفال الجالسين في المقاعد الخلفية. ليلى حاولت أن تصرف انتباه الأطفال بالقصص والألعاب، لكن العطش والإرهاق كانا يتغلبان على كل شيء.
نهر الأولي، الذي كان يُفترض أن يكون نهاية المعاناة، بدا بعيدًا للغاية، كأنه سراب. ومع مرور الوقت، بدأت العائلة تدرك أن رحلتهم لم تكن فقط رحلة هروب من القصف، بل كانت أيضًا رحلة صبرٍ على المعاناة، ومواجهة غياب التنظيم والإهمال الذي زاد من آلامهم.
كان الطريق ممتلئًا بالغضب المكبوت، والعائلات التي كانت تصرخ في صمت على السياسيين الذين لم يوفروا أي وسائل لتخفيف الضغط على الناس، وكأنهم تُركوا لمصيرهم في مواجهة الموت أو العطش.
في نهاية اليوم، وبعد ساعات طويلة من الانتظار، تمكنت العائلة أخيرًا من الوصول إلى نهر الأولي. كان حسن مرهقًا، لكنه احتضن أبناءه وقال لهم: “لقد عبرنا يا أولادي. سنشرب ونستريح، وسنبقى معًا مهما حدث.”
رغم كل الصعاب، كانت عائلة حسن مثل الكثير من العائلات التي خرجت من تلك الرحلة أقوى. لكنهم لن ينسوا العتب الذي يحملونه على من تركهم في مواجهة المجهول، دون أن يوفر لهم المساعدة أو التوجيه.
هكذا، تستمر حياة التهجير في جنوب لبنان، حيث القصف والحروب تجعل الناس أقوى، لكنهم دائمًا ما يتساءلون: أين هم أولئك الذين كان من المفترض أن يحمونا؟ وأين هم من أوجاعنا؟