دور المثقف ومخاطر التهميش والتبعية

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «وكالة نسيم كربلاء الخبرية»
بقلم : رياض الفرطوسي
لطالما كانت الثقافة والفكر رمزاً للمقاومة والتغيير في مجتمعات عديدة حول العالم. في الدول التي تقدر المثقفين، يشكل هؤلاء قوة معارضة لسلطتي السياسة والمجتمع، ويحملون همّ الفكر المستقل والنقد البناء، ما يثري الساحة الثقافية ويعزز قيم الحرية والنقد. لكن، في العراق، نجد أن الحدود بين المثقف والسياسي قد تلاشت، وأصبح من السهل على أي شخص يرتدي بدلة جميلة وحذاء لامع ، ويحمل كتاباً ‘ ويظهر بأسلوب خطابي تقليدي باهت، أن يُعتبر مثقفاً دون أن يقدم أي إسهام حقيقي للفكر أو النقد . لقد أظهرت التجربة التاريخية أن الفكر لا ينبع من المؤسسات السياسية، بل يتجلى في أعمال الأفراد المبدعين، الذين يسعون لطرح الأسئلة وتقديم رؤى نقدية للمجتمع. وعلى النقيض، تسعى السلطة السياسية، عبر العصور، للهيمنة على الفكر وترويضه.
فهي ترى في الفكر المستقل تهديداً يجب تحييده؛ إما عبر التهميش، أو الدمج، أو حتى شيطنة المثقفين وتحويلهم إلى أدوات خاضعة لتوجهاتها. يصف المفكر العراقي عبد الحسين شعبان هذا التوجه بـ”رأس الحاجة”، حيث يصبح المثقف مجرد تابع يتوافق مع خطاب السلطة ويعبر عن رؤيتها دون أي نقد أو اختلاف، على قاعدة “لسانك حصانك، إن صنته صانك”، ليكون المبدأ الأساسي للمثقف هو الطاعة المطلقة والاندماج الكامل في إطار السلطة .
عبر التاريخ، عانت الأفكار والمفكرين من محاولات التهميش والمصادرة. من اضطهاد الفكر في الأندلس إلى محاكم التفتيش، ومن ممارسات القيصر في روما إلى النازية والفاشية، حيث حاولت تلك السلطات تحطيم الأصوات المستقلة وتدمير الأفكار التي لا تتماشى مع سياساتها. لكنها فشلت في إخماد شعلة الفكر.
فمع مرور الزمن، يتحول المفكرون والمثقفون إلى نواة التغيير الحقيقي، لتختفي الأنظمة الاستبدادية، ويدين التاريخ كل من سعى إلى القمع الفكري، كالنظام النازي والفاشية الصدامية، ويُثبت التاريخ في النهاية أن الفكر الحر هو الذي يبقى .
رغم هذا، ثمة فئة من المثقفين قبلت التنازل عن هذا الدور التاريخي وقامت بتبخير السلطة وتأييدها، مفضلة دور التابع عن دور الناقد. هذه الفئة، التي يصفها البعض بـ”المثقف المبخر “، تدعم السلطة على حساب الحقائق النقدية، وتسعى لجعل المثقفين الآخرين على شاكلتها، مما يفتح الباب أمام انحدار ثقافي خطير، حيث يهيمن الولاء للسلطة على حساب الحقيقة والمبدأ .
وهناك من يشبّه المثقف بعود البخور‘ فكما أن رائحة البخور لا تنتشر وتُعرف إلا عندما يُحرق، كذلك المثقف الحقيقي لا يظهر تأثيره وقيمته إلا عندما يواجه صعوبات وتحديات في الحياة. في هذه الظروف الصعبة، يتجلى دور المثقف وأفكاره وأصالته، ويُعرف إذا كان مخلصاً في فكره وشجاعاً في مواقفه وبالمثل، كما تُختبر الخيول في الطرق الوعرة لنميز القوي منها عن الضعيف، فإن المواقف الصعبة تُبرز قوة المثقف وتكشف عمق ثقافته ومدى صلابته .
لقد أصبحت معظم الأحزاب والتيارات في العراق، كما في العديد من الدول، تتصارع على السلطة والثروة، ولا حاجة لها بالمثقف الناقد، بل ترحب فقط بالمثقف المروج والمبشر الذي يتبع التعليمات دون أي اعتراض. وبهذا، غاب دور “المثقف العضوي” الذي تحدث عنه أنطونيو غرامشي، ذلك المثقف الذي يُعبر عن آلام شعبه، ويسهم في تكوين وبناء الأيديولوجيا الحقيقية التي تعبر عن ضمير الأمة .
غرامشي يرى أن المثقف الحقيقي هو الذي ينخرط في الشأن الاجتماعي ويدافع عن القيم ويقف إلى جانب الحق، بينما يتحول الفكر، حينما يصبح مجرد مؤسسة، إلى منظومة جامدة، تفرض القواعد والمصالح وتتبنى أجوبة جاهزة. وهنا يضيع الفكر الذي يعتمد على الخيال والنقد، وتتلاشى الأسئلة الكبيرة لتحل محلها التعليمات الثابتة .
يبقى سؤال ملح: كيف يمكن للمثقف أن يستعيد دوره الحقيقي في ظل الضغوط التي تمارسها الأنظمة السياسية والتغيرات المجتمعية؟ وكيف يمكن الحفاظ على الفكر الحر من الضياع في خضم مؤسسات تحاول تسخير المثقف وترويضه؟ إن الإجابة تكمن في استعادة المثقف استقلاله، وأن يمارس دوره النقدي بكامل الحرية والشجاعة، من أجل حماية الفكر وتحصين المجتمع من استبداد السلطة وتحقيق التغيير المنشود




