حلبة الصراع وحلم السيطرة

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «وكالة نسيم كربلاء الخبرية»
في هذا الركن من العالم، حيث تتجاور الحضارات وتتنازع المشاريع وتتناسل الصراعات، لا تتوقف الأرض عن الاهتزاز، ولا تكفّ الجغرافيا عن التلوّن بدماء التاريخ. كلما ظنّت الشعوب أن لحظة الهدوء قد اقتربت، تعود المدافع لتصرخ، وتعلو الطائرات لترسم من جديد حدود النار. وليس الشرق الأوسط إلا حلبة صراع دائمة، تتحول فيها الدول إلى مربّعات مناورة، والشعوب إلى بيادق على رقعة يُديرها الأقوى، في لعبة مفتوحة على المفاجآت والخسائر المستدامة.
لكنّ لهذه الحلبة لاعباً يرفض أن يكون نِدّاً كغيره. يريد أن يختصر الملعب في ظلّه وحده، ويحوّل كل منافسيه إلى تهديد وجودي ينبغي سحقه، أو تدجينه على أقل تقدير. إنّها إسرائيل، ذلك الكيان الذي بُني على مشروع استثنائي في فكرته وممارسته: حلم السيطرة المنفردة، والسعي لاحتكار موازين القوة في إقليم يتقلّب على نار التاريخ والجغرافيا والمصالح.
منذ البدايات، لم تكن إسرائيل كياناً يبحث عن أمن داخل حدوده، بل مشروعاً يبحث عن حدود داخل أمنه. هذا ما عبّر عنه دافيد بن غوريون، الأب المؤسس، حين رفض فكرة “الحدود الطبيعية” قائلاً: “لا وجود لحدود ثابتة، بل تتغير وفق الظروف والمراحل الزمنية المختلفة.” وقد رُسمت هذه العقيدة على خرائطهم كما تُنقش التعويذات، وتحولت من فلسفة جغرافية إلى استراتيجية توسعية، يتحرك بموجبها كل جنرال إسرائيلي، ويتحدث على أساسها كل رئيس وزراء، من غولدا مائير إلى نتنياهو، ضمن سلسلة طويلة من التطلعات الأمنية المتضخّمة التي لا تقف عند سقف واضح.
وفي صيف الخرائط المتقلبة هذا، جاءت عملية “الأسد الصاعد”، التي دشّنتها إسرائيل ضد إيران، وكأنّها تتمة لمشهد طويل من إخضاع الإقليم، وضبطه على إيقاع الغارات والخوف. لم تكن العملية ردّاً موضعياً على تهديد، بل كانت رسالة إقليمية واضحة: أن لا قوة تُسمح لها بالنمو سوى قوة واحدة. وأن لا سيادة يُعترف بها ما لم تخضع للمقاييس الأمنية التي تحددها تل أبيب، بصرف النظر عن الشرعية الدولية أو الأعراف الدبلوماسية أو توازنات الإقليم المعقّدة.
لكنّ الرسالة الأعمق لا تُقرأ فقط في الطائرات التي تقصف، بل في توقيت العملية، واتساعها، ولغتها الرمزية. “الأسد الصاعد” ليس مجرد اسم عسكري، بل يحمل إيحاءً بالتمدد والسيطرة، وكأنّ الكيان يريد أن يعلن مجدداً أنه ليس مدافعاً عن نفسه، بل ساعٍ لصياغة الإقليم من جديد، وفق تصوّره الخاص، مدفوعاً بوهم أن اللحظة الدولية الراهنة تسمح له بأن يفرض ما يشاء، متكئاً على دعم غربي يبدو – حتى الآن – غير آبه بتبعات الغطرسة، أو غير قادر على كبح جماحها.
ويبدو واضحاً أن هذا “الحلم بالسيطرة” ليس وليد ظرف آني، بل نتاج عقود من التنظير والتحضير. ففي كتابه “سلام دائم: إسرائيل ومكانها بين الأمم”، كتب بنيامين نتنياهو أن “السلام مع الفلسطينيين يضعف إسرائيل”، وأن مبدأ “الأرض مقابل السلام” لا يصلح، بل المطلوب هو “السلام مقابل السلام” أي السلام من موقع التفوق المطلق، لا التسوية. إنه ليس سلاماً ينهي الصراع، بل سلام الردع، و”السلام من خلال القوة” كما يسميه. ومن هنا نفهم لماذا لا ترى إسرائيل في الاستقرار هدفاً، بل في الهيمنة أداة استقرار، حتى لو قُدّم ذلك على أنقاض المدن وصمت المقابر. فكل معادلة لا تضمن لها التفوّق، تُعدّ خطراً استراتيجياً يجب استباقه بالقوة.
غير أن هذا النوع من التفكير الاستراتيجي المفرط في التمركز حول الذات، لا يصنع شرق أوسطاً جديداً، بل يدفع المنطقة نحو نفق طويل من الفوضى المتجددة. فإسرائيل التي تسعى إلى تثبيت نفسها كـ”قوة إقليمية منفردة” Lonely Regional Power، تكرّر بنسخة محلية ما حلم به صموئيل هنتنغتون حين وصف الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة بـ”القوة العظمى الوحيدة” Lonely Super Power. غير أن الفرق شاسع، والبيئة مختلفة، والسياق أكثر هشاشة. فبينما استندت أمريكا إلى اقتصاد عملاق وتحالفات مستقرة وبحرين يفصلانها عن ساحة الخصوم، فإن إسرائيل تسبح في بحر من التناقضات والتهديدات والتعقيدات التي لا تُحتوى بالعسكرة وحدها.
فالشرق الأوسط ليس ساحة فراغ جيوسياسي يمكن ملؤها بسهولة. إنه فضاء مزدحم بالتاريخ، والمذاهب، والمصالح، والقوى الصاعدة، والتوازنات الحساسة. ومن يسعى إلى السيطرة عليه دون اعتبار لهذه الحقائق، يفتح باب الجحيم لا لنفسه فقط، بل للجميع، لأنه بذلك يُخاطب أزمات المنطقة بمنطق النار، لا بمنطق الحلول، ويزرع فيها بذور التصعيد المتكرر.
ولهذا السبب بالذات، كان الموقف العراقي من هذا التصعيد موقفاً بالغ الأهمية. فقد عبّر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بوضوح عن رفض العراق لهذا النهج الإسرائيلي القائم على فرض غطرسة القوة، مؤكداً أن “استمرار العدوان يشكّل خرقاً فاضحاً للقوانين الدولية والإنسانية، وسيسبب خللاً استراتيجياً في توازن المنطقة”. ليس من باب الانحياز، بل من باب الإدراك العميق بأن أمن المنطقة كلٌّ لا يتجزأ، وأن العبث بتوازناتها لن يترك أحداً بمنأى عن العواقب،فالنار التي تُشعل في طهران قد تتخطى حدودها لتحرق ما لا يخطر على البال.
ويُحسب للعراق، وهو الخارج حديثاً من محارق طويلة، أنه يحاول أن يستعيد موقعه العربي والإقليمي من بوابة التوازن لا المحاور، ومن منطلق العقل لا الاستقطاب. وقد دعا الرئيس السوداني المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤولياته، والضغط لوقف هذا التصعيد، والعودة إلى مسار تفاوضي يُعيد الاعتبار لمبدأ السيادة وحسن الجوار. إنها دعوة تتجاوز لحظة الأزمة، وتستبطن رغبة حقيقية في ترميم الجوار، لا استغلال الانقسام.
لكنّ صوت العراق، رغم أهميته، يواجه جداراً من الصمت الغربي المريب. إذ تبدو الولايات المتحدة والغرب عموماً وكأنهم يباركون، ضمنياً أو علناً، كل خطوة توسعية إسرائيلية، ما دامت تُحقق المصالح المشتركة في تقويض القوى المنافسة. وهذا ما أشار إليه عدد من الدراسات الأمريكية، ومنها الوثيقة المعنونة “الإبحار في العاصفة”، التي قُدمت إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن عام 2001، وتضمنت تصوراً مفاده أن “إسرائيل يجب أن تُكرّس كقوة منفردة في الشرق الأوسط” لضمان المصالح الأمريكية والغربية، وتحقيق الاستقرار من خلال تفوق طرف واحد فقط.
وهكذا تتحول الحلبة إلى مسرح مفتوح، تصول فيه إسرائيل، بينما يُمنع على غيرها امتلاك أدوات الردع. وتصبح حروبها ليست سوى أدوات تعديل في الخريطة السياسية، تُستخدم لقصّ أجنحة الخصوم، وتجفيف منابع التهديد، وتطويع الواقع بما يتناسب مع رؤية تقوم على التوسع لا الشراكة، وعلى الإخضاع لا التعايش.
إن ما يجري اليوم بين إيران وإسرائيل، بما يحمله من تصعيد متسارع، ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل لحظة مفصلية في الصراع على مستقبل الإقليم. وإذا تُرك الأمر لغطرسة القوة وحدها، فسنكون أمام شرق أوسط جديد، ليس أكثر أماناً، بل أكثر هشاشة، لا تحكمه توازنات، بل مزاج تفوّق ينذر بتحولات مدمّرة. ومن السذاجة الاعتقاد أن هذا التوتر سيبقى محصوراً في مساره، دون أن يمتد إلى دول الجوار، وربما إلى العمق العربي ذاته.
فهل ننتظر أن يُكتب تاريخ هذه المرحلة بمداد اللهب؟ أم أن شعوب المنطقة ستنهض، ومعها الإرادات السياسية العاقلة، لتضع حداً لهذا السباق نحو الحافة؟ إن الحلبة مفتوحة، نعم، لكن الحسم لم يقع بعد. وما زال بإمكان العقلاء أن يوقفوا انزلاق الجميع نحو لحظة اللاعودة.




