الموقد الدافئ (الحوار)
في خوض هذه الحياة نحتاج لإذنٍ مصغيةٍ وحوارٍ جادٍ .حتى لا تتشكل كتل صخرية من الكتمان ومن ثم تؤدي بصاحبها للهلاك، نحتاج إلى يدٍ تمسك حروفنا الهاربة خوفاً من البوح. حتى لا تهوي الكلمات بوديان الإتهامات الباطلة، علينا بالحوار ولا يتحقق ذلك إلا بوجود هذه الأذن الجامعة لخليط الأفكار، تمزجه جيداً، ليخرج من الفم محلى بأحلى الألفاظ.. بالحوار الجيد نشعل فوانيس الإبداع المدفونة في ركام النفس، لكي ننصت لفكرةٍ، هذا يعني: أننا نسقي برعماً وليداً ، ما زال يتلفت يميناً وشمالاً باحثاً عن مغرسٍ لين، كي تنبت الفكرة فيينع ثمارها، يطعم منها النفوس بإختلافها، نفوس البشر ذات مشارب متنوعة مختلفة ألوانها، حتى نرمم المفاهيم الهشة، نصلح المنخور منها، علينا تحديد كيفية الحوار الجيد، أساليب الحوار الجيدة الليّنة هي الأساس لتمحي طغيان النفس الجبارة، وتهدم السيء من الأفكار، كما أشار لها القرآن الكريم ( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ• فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ )[طه، ٤٣،٤٤] فالقصص الحوارية هذه تشير إلى تحقيق المراد من الأهداف المرجية لتطفح بألوانٍ حسب عقول البشر ومراعياً مقتضى حال المخاطب. بعض الأفكار الطائرة في فضاء المخيلة، تحتاج لمن يبسط جناحها، لا أن نُحلق معها، ولا تحتاج لإرهاق النفس، كل ما على المحاور أن يرمي بشباكه في بحر الأفكار برفق ولين، ليصطاد السمين منها والنافع، لفائدة يرجوها، لا تستساغ ولا تنهضم، إلا بعد أن تتحقق أهداف الحوار وإن يكون على جانب الآخر إذن ذات إنصات جيد، عملية الحوار والإنصات لها أبعاد دينية، نفسية، إجتماعية فالحوار من الجانب الديني: خير ما وجد هو في القرآن الكريم مشار لذلك قوله تعالى ((اسمعوا، انصتوا)) وكما قيل أسمع كثيرًا وتكلم قليلاً، ولا تكن كـالثرثار المهذار، يصم أذنه عن سماع الآخر، من الأخلاقيات السامية أن نغضض بصوتنا عند المحاورة ونذلل وطأة الكلمات الشديدة، ونبسطها مراعاة لمقتضى الحال، فنرى خيوط الرحمة والمودة يشع نورها بينك وبين المخاطب، يخرج الكلام من القلب ليذهب في أحضان الروح بكل هدوء وسكينة، مستعاراً بقوة البيان والحجج، دون مزاحمة للأفكار في ذهن المحاور، يتحلى بضبط النفس كي يتعايش مع الأحداث، بعيداً عن إعلان الخصومة، وكإنه في حرب. أما من الناحية النفسية: ففيه ترويض للنفس، النماء الروحي، تغذية للأفكار الجائعة، إقناع المشاعر من التحرر من عبودية الكبت، وفك قيود الخوف والقلق الذي يرهق النفس، لتخرج من سجن الصراعات القائمة داخل خباياه، إعلان صلح بين المشاعر العدائية،وبين النزيةَ منها، نبتر الزوائد المرهقة، فتنتشي البهجة في النفس، محققاً بذلك إنضباط للنفس ومستعان بإبتهاج الحوار الإيجابي، بعيداً عن الخصومة والجدل، محلى بالصدق والأمانة في طرح كل موضوع ليحقق أهداف مرجوة. أما إذا كان الحوار الجيد من الناحية الإجتماعية: هذا يعني حل لعقدة ما، فلا إحتكار ولا طمع في مفاهيم قد تقيد الأفكار، وإن وجد الإنصات الجيد فهو حرية لروحك، وضحكة لقلبك، عطف الإنسان على أخيه الإنسان، كـتجمع الناس حول موقد دافئ، يتخلل ذلك الدفء إلى الروح، كل واحد منهم سيطلق العنان للكلمات مهما كانت. سيستقام الحب، تسود الألفة، وينبجس السنا، فتتوهج النجوم لامعة، تحيّ ثوران الأفكار تحت قباب السماء..