قديماً قيل “العمائم تيجان العرب”. والعمامة يرجع تأريخها إلى ما قبل العرب، فقد لفت انتباهي صورة لنحت يرجع إلى عصر حمورابي وكانت فيه العمامة ظاهرة وقريبة جدّاً ممّا حولنا من هيئات عمائم معهودة. في الشّريعة، ورد استحباب التّعمّم في عدد من الرّوايات الشّريفة في أكثر من مورد كما في أثناء الصّلاة وبعد الخروج من الاستحمام وغير ذلك. ويحدثنا التّأريخ وكذلك سيرة سيّد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله) أنّ العمامة كانت من جملة ما يرتديه سائر النّاس ولا خصوصيّة لها في البين إطلاقاً. وأنّ أعرابيّاً دخل على المسجد النّبوي طالباً النّبيّ الأكرم ليشتكيه، فلمّا نظر يميناً وشمالاً ليلحظ ما يميّز النّبيّ عن غيره كما يفعل الملوك والأباطرة من ملبس أو عرش وما شابه، ولم يجد -إذ كان النّبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) كالآخرين بلباسه ومظهره ومجلسه- فصاح بالحاضرين: أيّكم محمّد؟ فهذه الرّواية إن صحّت ففيها عدّة دلالات ودروس وعبر، منها أنّ العمامة لم تكن تختصّ بنبيّ أو وصيّ أو عالِم دين.
العمامة شئ، والعِلْم وعالِم الدِّين شئ آخر. قد يلتقيان وقد يفترقان. فرُبّ معمّمٍ غير ذي علم، ورُبّ عالِم دين غير معمّم. العمامة زيّ ليس أكثر، ولا تشكّل اليوم سوى جزء من تقاليد ليس إلّا.
بمرور الزّمان تبدّلت التّقاليد وتغيّرت الملابس والأزياء إلّا أنّ شرائح معيّنة بقيت تقاليدها مراعية لتقاليد الأزياء الّتي أخذت منحى التّبادر الذّهني العام أنّها تخصّ شريحة معيّنة بذاتها. فالقضاة مثلاً في أغلب البلدان في هذا العصر يظهرون بأزياء معينة. وعلماء الأديان على اختلاف أديانهم كلٌّ يرتدي زيّاً معيّناً وقبّعة أو فينة أو طربوشاً أو قلنسوة أو حَطّة أو عمامة معيّنة يميّز بها عن سائر الحِرَف والاختصاصات الأخرى. وهكذا، سادت في عرف وتقاليد المجتمع المؤمن كعلامة تبادر أنّ معتمرها يفترض أن يكون عالِم دين. فهي إشعار بالتّصدّي، وكأنّ معتمرها يقول هذا شعاري أدعوكم من خلاله لتتوجّهوا إليّ بجميع ما يهمّ شؤونكم الدّينيّة من حلال وحرام لأضع بين يديكم ما تحتاجون إليه. ولا يبدو ذلك سيئاً لكن المصيبة إن كان هذا المعتمر بها ليس من أهل العِلْم بل من أجل أن يعتاش عليها ويدجّل بها ويستغل البسطاء، كما هو حاصل في ظلّ الفوضى العارمة في هذا العصر حيث لا حسيب ولا رقيب ولا نظام ولا ضوابط في لبس الزّيّ الدّينيّ والعمامة ولا حتّى في حجمها وعدد طبقاتها وقياسها، وإلى الله المشتكى.
ليست هذه دعوى لإلغاء هذا الزّيّ – وإن كنتُ لا إبرّئ نفسي كون أنّ العلم والتّقى والأخلاق غير متوقّفة على زيٍّ وعمامةٍ بل وقد يكون عدم وجود زيّ محدّد عاملاً مساعداً لسدّ باب التّطفّل وباب الاستغلال، وذلك يحتاج إلى قرار شجاع من لدن فقيه ذي نفوذ – إنّما من أجل أن ألفت انتباه شريحة اجتماعيّة واسعة تبني آمالاً وتعتمد كليّاً في شؤون دينها على مظاهر ارتبطت بشكل وآخر بالدِّين وأهل العِلم، مظاهر كالعمامة والجُبّة، والصولجان، والخواتم المرصّعة بالأحجار الكريمة المزركشة بالأذكار والأحراز، والسُبَح الحجريّة والتّرابيّة الحسينيّة، وغيرها. فيا آلَ الله ويا أيتامَ آل محمّد اعلموا أن تلك مظاهر وتقاليد ليس إلّا فلا تذهبنّ بكم المظاهر. قال تعالى ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾.
الباحث السيد محمد باقر الرضوي الكشميري