الظلمة الحالكة، التي تمثلت بفترة من العام 2014 حال دخول داعش التنظيم الارهابي الى العراق؛ ليعلن خلافته المزعومة، بالتوازي مع ذلك الحدث خيمت ظلامة لا تقل سوءا عن مثيلتها، تلك الهجمة التي تعرضت لها المؤسسات العسكرية والمدنية العراقية، باتهامات شتى بين الضعف والتقصير والتاسيس وفق اطر غير مهنية فضلا عن التشكيك بوطنيتها، وانها قاصرة وعاجزة في الدفاع عن الوطن وشعبه ومقدساته، اضف لذلك ان الانتماء الى الجيش تحديدا كان وظيفيا وليس بداعي الواجب وروح الدفاع والمواطنة.
بل كانت تلك الاتهامات توجه الى المؤسسة العسكرية خاصة، بانها غير قابلة على ان تلبي احتياجات الامن؛ وكان الغرض منها اضعاف المؤسسة العسكرية واسقاطها جماهيريا وفق نظرية الاهلاك التي قادتها بعض المجاميع الرامية لخلق الفجوة مع المحيط المدني لتلك المؤسسات.
نعم، نحن نتفق مع بعضها ونختلف مع الكثير، فالارباك الذي شاب المؤسسة العسكرية لم يكن من داخلها، انما كان بفعل العوامل السياسية العاملة على تكوين قوات عسكرية لا توازِ مفهوم الدولة، وما زج العناصر السيئة الا محاولة لنخر هذه المنظومة من الداخل وجعلها غير قادرة على التمثيل المفترض وهذا ما لا يطرحه المغرضون لانه سيرتد عليهم، فبالرغم من تلك المحاولات المسيئة تبقى روح البسالة والمواطنة في اجهزتنا قيادة وافرادا حية لا تشيخ ولا تموت.
وعودة على بِدء، وبين ليلة وضحاها انهارت مدينة الموصل وواصل غربان ما يسمى بالخلافة مطاردة قواتنا البطلة، وازدادوا في عبثهم حتى تهاوت المدن واحدة تلو الاخرى، وواصلت في ذلك حتى تبعتها مدن اخرى ومحافظات مثل؛ كركوك والزاب والحويجة والرياض والرشاد وعلاس وعجيل، واستمرت نحو صلاح الدين ومدنها ومنها الشركاط وبيجي وتكريت، وباتت صلاح الدين محاصرة وواصل العدو التقدم نحو سامراء وبلد وعزيز بلد والضلوعية.
في الوقت عينه، اتجه العدو باتجاه القائم وحصيبة وصولا الى الكرمة والصقلاوية وجزيرة الخالدية حتى مشارف بغداد، فيما وجه العدو اسلحة الكاتيوشا والهاون الى مشارف مدينة الكاظمية المقدسة، وغيرها مثل التاجي وابو غريب واليوسفية واللطيفية والرشيد كانت في مرماه ايضا، الامر الذي ادى الى ان تكن الطرق المؤدية الى بغداد والمحافظات المحاذية غير مؤمنة.
كذلك كانت النوايا الخبيثة بالتوجه الى قضاء جرف الصخر جنوب بغداد العاصمة، والتوسع باتجاه واسط من خلال العزيزية، بما في ذلك تطويق حزام بغداد، الامر الذي انتهى بان يكن التنقل بين العاصمة بغداد ومحافظات الشمال يشكل صعوبة بالغة جدا، وامست عصابات التنظيم الارهابي داعش تحكم القبضة على الطرق وتقوم بالابادة الجماعية.
دقت بغداد ناقوس الخطر باشد انواع الخوف والانذار، واستغل العدو الانهيار لينفذ مخططاته بالاجهاز على بغداد لاسقاطها، مستفيدين بذلك من الارباك الذي تسلل الى قلب المشهد الامني وتخابر العناصر ذات الحضور السياسي من شخصيات رفيعة على مستوى مؤثر في المشهد السياسي وغيره، اذ كانوا ممهدين لسقوط العاصمة من خلال التمكين لهذه العناصر داخليا، ذات الوقت كان التنظيم يعد يوم السبت الموافق 14ـ6ـ2014.موعدا لاقتحام العاصمة بغية اسقاطها.
هنا بالذات، اقف اقولها للتاريخ، حين كنا في الاجهزة الامنية واوشكنا على فقدان الامل فضلا عمّن فقده اساسا، في المحافظة على العاصمة من السقوط، وكان يفصلنا يوم واحد عن تنفيذ المخطط الخبيث، برز الامل الينا بصورة اللطف الالهي، الذي تُرجم بفتوى الدفاع الكفائي المباركة لمفتيها سماحة السيد علي الحسيني السيستاني، تلك الفتوى التي شكلت يد العراقيين والعراق الضاربة لجبهة العدو، وغيرت موازين القوى ومهدت لارجاع الامور الى نصابها؛ لتعلن ساعة الصفر في حماية العاصمة والتدرج بطرد العدو تحت عباءته المباركة، بخطبة سماحة المرجعية الدينية العليا التي القاها في الصحن الحسيني المطهرسماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي.اشتدت همم القوات المسلحة والاجهزة الامنية، حين لمع في اعينهم مشهد التلبية العظيمة للفتوى المباركة، حيث انبثقت صورة المتطوعين من ابناء العراق الغيارى، خاصة وسطه وجنوبه، اذ وصلوا بغداد ليلا بعجلات الحمل لاعدادهم المهولة التي لم تستوعبهم العجلات الصغيرة.
على الساحر انقلب السحر، واصبحت العاصمة تضج بالمتطوعين الاشاوس وتعج بدويهم الوطني والعقائدي لتحتضنهم الجوامع والحسينيات؛ وكانهم يلبون فرضا من فروض الطاعة الالهية، لم تكن انذاك البنادق كافية ولا الذخائر وافية، لكن الايمان، كل الايمان كان يلهبهم فيحملهم تارة ويحملونه كسلاح لا ينفذ تارة اخرى، تلك اللحظات هي اللحظات الخالدة التي لا تمحى من الذاكرة ولن تمحَ من سجل البطولة، بدأت مرحلة جديدة تشرق بها شمس النصر وتنقشع الظلمات، ويسير العراق نحو نصر مؤزر يتبعه نصر اخر، كانت تلك الفتوى وما زالت من امثلة الانقاذ للامة وحفظها وصون الوطن، اعادت للعراقيين عراقهم، وللمدافعين نصرهم، ولقواتنا الامنية ما فقدته، والامل لمن تلاشى عنه.
فالخلود لصاحب الفتوى، والرحمة للشهداء الملبين، وللجرحى وسام فخر واعتزاز، ولنا الامل الذي لا ينقطع بعد ذلك الدرس العظيم، دمت مرجعا وابا ووطنا بحجم العراق.
اللواء علي حسين الحمداني