من هنا بدأت حكاية التأريخ نحو حج الطفوف
تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «وكالة نسيم كربلاء الخبرية»
بقلم الباحث السيد علاء تكليف العوادي
في الثامن من شهري ذي الحجة الحرام من عام 60 للهجرة بدأت حكاية التأريخ نحو حج الطفوف، بعد ان اعرض الإمام الحسين (عليه السلام) عن حج بيت الله الحرام لكي لا تنتهك حرمة بيت الله بإراقة دمه الطاهر، فهنا بدأت تنسج حكاية التضحيات بأقلام من نور مدادها دماء العترة العلوية في دفتر الإعلامي الزينبي، لتُصل لنا وقفات الرجال، وتحكى لنا بطولات الشباب، وتفاني الأبطال، وشجاعة النساء التي دفعن أبناءهن وأفذاذ أكبادهن لرسم صورة الغد الذي كان قد خطه النبي الأكرم لابنه الحسين (عليه السلام) منذ يوم ولادته حين قال لابنته وهي تحمل مولدها، كما رواه المجلسي في بحاره «أنه لما أخبر النبي ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن، بكت فاطمة بكاء شديداً، وقالت: يا أبتِ متى يكون ذلك؟ فقال: في زمان خالٍ مني ومنك ومن علي، فاشتد بكاؤها»(1).
فبذلك اليوم بلغت أراد الله بأن يرى شهيد الطف مضرج بدمائه الزكية، ومن حوله أهل بيته وصحبه الميامين، من هنا تحول التأريخ ليصبح أكثر دموية إذ لم تحفظ حرمة أقدس إنسان على وجه البرية وقتئذ، فما ان استرخص ذلك الدم الزكي لم يكن بعده من حرمة للدماء الأخرى، فاصبح ذلك اليوم منطلق للطغاة بأن تستنزف الدماء وتهرقها، وهي لم ترعى حرمة لها بعد واقعة الطف.
أنموذجية واقعة الطف:
ان واقعت الطف سَجَلَت إنموذجاٍ في التاريخ القديم والحديث لطرفي الصراع، باتخذ طرف الحق من الحسين (عليه السلام) منطلقاً لبناء روح الدفاع عن المظلومية ونبذ الباطل وديمومة البحث عن الحرية، إذ اعتبر من الإمام الحسين (عليه السلام) مثالاً يحتذى به في أرساء مبادئ الحرية، وأصبح النموذج الثائر، ولأجل ذلك لقب وبجدارة سيد الأحرار، وأبي الأحرار، لان كل حر استلهم منه المبدأ، سواء أكان ذلك من أتباعه أو حتى ممن لم يؤمن بالإسلام ديناً، إذ أُتخذ من الحسين قائداً للحرية ومحيا للإنسانية، وأن لم يكن للدين بينهما روابط واتصال، ومن أوضح الشواهد الثائر الزعيم الهندي المهاتما غاندي إذ قال: ( تعلمت من الحسين كيف أكون مظلموماً فأنتصر)(2).
وفي المقابل، أتخذ الظلام قتلة الإمام الحسين لهم منهج في التمادي والظلم والجور، حيث أنهم جعلوا للظالم قيمة وقدراً، وأنزلوا المظلوم عن مقامه وشأنه، فجاروا وتمردوا على القيم والمبادئ، فنعتوا المظلوم – الإمام الحسين (عليه السلام)- بأنه خرج عن حده فقتل بسيف جده، فمثلا قول مفتي الشام محمد أبو اليسر عابدين “بيعة يزيد شرعية، ومن خرج عليه كان باغياً”. نموذجاً من نماذج التأسي الحديث بنهج معاوية بن أبي سفيان وبني أمية.
تلك النعوت التي اطلقها علماء السلطة والسوء تؤدي إلى التمرد على المبادئ والقيم.
استمرارية مظلوميته:
لم يكن هذا الظلم الذي حدى بالإمام الحسين (عليه السلام) من قبل السلاطين والحكام ليقف إلى هذا الحد، بل استمر إلى يومنا هذا بتزييف الحقائق وبث الأكاذيب والافتراءات من عدة جوانب، بل تعدى إلى إصدار أحكام قتل وتعذيب لكل من تصدى لذكر هذه القضية التي لم يمكن لها النسيان، وذلك للعهد الذي عهده النبي (صلى الله عليه وآله) في ذيل الحديث الذي ذكرناه في بادئ الأمر، حيث قال لابنته فاطمة (عليها السلام) حين سألته: «وقالت: يا أبتِ متى يكون ذلك؟ فقال: في زمان خالٍ مني ومنك ومن علي، فاشتد بكاؤها وقالت: يا أبه، فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي: يا فاطمة، إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل في كل سنة، فإذا كان يوم القيامة، تشفعين أنت للنساء، وأنا أشفع للرجال.. وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة، إلا عين بكت على مصاب الحسين، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة»(3).
استمرارية عطاء ثورته (عليه السلام):
بما ان المبدأ في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإصلاح فهي لم تكن عبارة عن حادثة عابرة، بل هي شمولية وما دل على شموليتها ما ذكرناه في انموذجية واقعة الطف، إذ تعدت حدود البلد والدين التي أصبحت أكثر عمقاً وترسيخاً لدى مجمل أبناء الإنسانية، فهي في نمو وتكامل مستمرين منذ انطلاقها في العاشر من محرم الحرام عام 61 للهجرة، فباستمرارية هذا النهج القويم الذي أصبح المنبع لتغير كثير من العادات العالقة في أذهان الناس فبخروجه (عليه السلام) الذي أراد منه الإصلاح حيث قالها بصراح الكلام وصدق التوجه: «إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين»(4).
فمن منطلق هذا الهدف السامي الذي كان الأساس لتلك النهضة العالمية التاريخية، حيث أشار (عليه السلام) إلى أمر مهم وهو منطلق إلى هذه الاستمرارية وعدم الانقطاع « فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق»، هنا النقطة الأساس بالاستمرارية التي دامت خلال كل هذه القرون المنصرمة ولم تكن دعوى لمن حضر واقعة الطف إذ لو كانت كذلك لاندثرت وأنعدم ولما سمعنا لها من ذكر أقل الأمر بعد مرور مائة عام من حدوثها كما حصل في الكثير من النثورات والحركات على مر العصور وبعد فترات افلت أخبارها واندثرت أثارها.
(فمن قبلني) دلالة على الاستمرارية إلى أخر ما كتب الله لهذه الدنيا من بقاء، ولذلك الاستمرار أشارت السيدة زينب (عليها السلام)، وهي تخاطب أبن أخيها الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) إذ قالت: «وينصبون لهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يُدرَس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام . ولَيَجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلا علوّاً»(5)، وهذا يعني ديمومة قضيته وان أراد لها الاندثار لان من يقدم لله كل ما يملك يعطيه الله المقابل كل شيء.
دلالات ودروس من ثورته (عليه السلام):
تمثلت ثورة الإمام الحسين تلك الحركة التي رسم منهجها وخط أسسها النبي (صلى الله عليه وآله)، كما أشرنا بعدد من الدلالات والدروس التي استُنتج منها العبر، فقد أعطتنا تلك المدرسة دروس و دلالات أصبحت منار لأبرار، بل للبشرية جمعاء، فمن الدلالات والدروس التي أسسها (عليه السلام):
1-التغيير:
فبعد ان رحل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن هذه الدنيا شهيداً على الأصح، تغيرت معالم الحركة الدينية، بعد ان تماد المتمادون على وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) باغتصاب الخلافة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وما عقبها من أحداث اتسمت بالتغير لحقيقة الدين، فكان لابد لنهضة تغير المسير وتصحح ما تم التلاعب فيه من مبادئ الرسالة الإلهية بدعوة أناس إلى الصحيح منها واتباعه.
2-الاخلاق:
بعد أن لاحظ الإمام الحسين (عليه السلام) إن الأخلاق الإسلامية الأصيلة قد انعدمت عند الأعداء، أراد إعادتها إلى قوامها، باتخاذه عدد من الخطوات عمليه بعيداً عن التنظير والتزييف الذي عرفت به أعدائه، فبخروجه من مكة لم يريد للكعبة ان تنتهك حرمتها، فبادر في يوم الثامن من شهر ذي الحجة الحرام للإحلال من إحرام حجه بعمرة مفردة والخروج منها متوجها إلى الكوفة التي كانت يوماً عاصمة دولة أبيه الإمام علي (عليه السلام)، بل انه (عليه السلام) حاول التصحيح للفكر والأخلاق التي انعدمت سماتها عند القوم، بتذكيرهم بتقاليد العرب لتحريك الحمية القبلية بداخلهم، إذ قال لهم: «ان لم يكن لكم دين فكون أحرار في دنياكم»، فبالحرية خاطبهم، وهذا نوع من الأخلاق التي تربت عليها القبائل العربية حتى قبل الإسلام، لكن القوم فقدت عندهم حتى تلك الأخلاق التي كان المفروض انهم توارثوها من أسلافهم.
3-الإباء والتضحية:
من الدلالات التي تُستلهم من ثورته (عليه السلام) التضحية وبذل الأرواح لأجل ترسيخ مبدأ التضحية من أجل تلك القيم.
4-تصحيح النهج الديني عند الفرد والمجتمع:
ومن تلك الدلالات التي رسمتها ثورته (عليه السلام) أيضاً أعادة الناس إلى المبادئ والقيم الدينية الصحيحة التي عمد بني أمية إلى تحريفها بقوة السيف وبذل الأموال وتزيف الحقائق وحرف بوصلة الإسلام الحقيقي إلى عكس اتجاه الحقيقة، أبزرت مبدأ حب الحاكم ولزوم اتباع أمره، وإن الخروج عليه يعد خروج على الدين وانتهاك حرمته، وانه بمكانة من العلو بحيث يقوم مقام الخلافة الإلهية في الأرض، كما سموا معاوية بخال المؤمنين وكاتب الوحي وغيرها من الألقاب والمسميات التي لم ينزل الله بها من كتاب وسلطان، فهنا اتخذ الإمام الحسين (عليه السلام) بنهضته منذ اليوم الأول من خروجه من المدينة إلى مكة ليعلن للناس ان الحق مع نهجه، وان الباطل ما عليه يزيد بن معاوية، فلابد من التصحيح لإعوجاج النهج المستشري في أوساط الناس في عهد معاوية، وتوارثه أبنه يزيد عليهما لعنة الله تعالى، فكان الهدف السامي الذي يبحث عنه الإمام الحسين (عليه السلام) وثار لأجله، هو عودة الدين الإسلامية إلى سابق عهده، حيث زهر في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) بتعاليمه السماوية العليا.
فلأجل تحقيق هذه الأمور وبث روح العزة للإسلام، وأثبات المبدأ، خرج (عليه السلام) منتفضاً ثائراً، فلأجل ذلك خلد التاريخ ذلك اليوم بخلود لن ولم يندرس، حتى يأتي الله بذلك اليوم ليتم أركانه على يد وليه الإمام الحجة أبن الحسن (عليه السلام) الذي هو من أبناء الحسين وأحفاده ليملأ الأرض قسطاً وعدلا بعد ان ملئت ظلماً وجورا.
الفهرس
ــــــــــــــــــــــــ
1) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 44، ص329.
2) موقع حكم https://www.hekams.com/?id=24402.
3) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 44، ص293.
4) نفس المصدر، ص329.
5) البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، ج12، ص332.